أما آن لهذا الانبهار أن ينتهي؟!
د. خالد بن صالح الحميدي
لم، ولن تموت الشعوب الإسلامية يوماً، بل، يسترخي بعضها حباً في الدنيا وزينتها.. سيبقى فيها من يجاهد لتحقيق رسالتها على الأرض. بقيت حيَّة حتى في خضم الظلم والاستبداد، وفي خضم الاستعمار الغربي، العسكري والثقافي، الذي لفظته خارجاً وراحت تشذب أدواته، بل ملت من اتباع الأشقر القدوة في كل شيء.. في اللغة، وفي الحياة بكافة مستوياتها..! بقيت، الأمة، مستيقظة حتى حين نشر علمانيو بني جلدتنا بذورهم التي خدرت الكثير منا إلا أنهم لم يستطيعوا الإطاحة بعنفوان الأمة ومناعتها.
لقد استعرت الظواهر الاجتماعية والأخلاقية السلبية، والأمراض النفسية، بعد أن بعدنا عن هويتنا وفطرتنا الأصيلة، وعن لغتنا، حتى التديّن أصبح عادات لارتكازه على واقع مغاير لفطرتنا! نودّ في قرارة أنفسنا لو ننتقل بعباداتنا إلى واقع آخر، إلى كوكب آخر! نقرأ عنه في كتب علاها الغبار، ونسمع عنه في الفضائيات وخُطب الجُمعات.. ولكن، هذا الانتظار، لطوله، أدى إلى تبلّد شعورنا واسترخائنا عن تطبيق كثير من الفروض الواجبة علينا ديناً، حتى "لقمة العيش" و"فقه الواقع" و"فقه الضرورات" و"التخلف" ولا ننسى "القبيلة" وحتى "الجيران"! كل ذلك يُلزمنا، في أحايين كثيرة، اتباع ما هو خارج عن قناعتنا الفكرية والثقافية الدفينة منها والظاهرة! علينا استبدال القواعد بقواعد أخرى! فـّ: "أنا أتقن الإنكليزية إذاً: أنا موجود في عالم المال والأعمال"! و"أنا أعبد ربي بيني وبين نفسي وما لي ولغيري، إذاً: أنا مقبول"! و"أنا أساير الواقع وفقه الواقع ولا حيلة لي فيما وراءه، إذاً: أنا إنسان طبيعي"! و"أنا هيّن ليّن، مقدِّر لشؤون وشجون غيري، إذاً: أنا نموذجي"! حتى ذابت الأنا في اللاأنا.. فأصبحت الهوية قديمة، والتراث باليا، والقبيلة مهزلة، والتاريخ مزبلة! أجيال هَدَّمَت أجيالا، وحاضر بذرة الأجيال القادمة، لا يزال يسبح في بحر رمادي اللون!
إن الصراع بين الحق والباطل سيبقى مُستعراً.. ولكن! ألم يُنزِّل الله قرآناً، وخلق أفعالاً، والأمثلة كثيرة، للاقتداء بها في كل حين وزمان! فإلى متى سنداوم على اتباع مسيرة "الآخر"، ونهمل ما أوتينا من خير خاص بنا؟ طبعاً فكرنا وأمعنا في التفكير ووضعنا الحلول النظرية والعملية.. ولكن! هل فَعَّلنا ذلك الفكر وأنفذنا ذلك الإمعان، أم أسندنا كل ذلك فقط إلى ما نحب ونرضى؟!
وهكذا نسير على ما بين أيدينا، وهو من صنع البشر.. ونغض البصر عما مُلِّكناه من أُسس فقط لأنها من عند "غير الإنسان"! الجاهليون اعتقدوا بوجود الله، ولكنهم استعانوا بالأصنام، وحجتهم أنهم لا يرونه! كفروا بِنعم الله وأيقنوا أنهم على حق عندما جمعوا الدنيا ومتاعها، وها نحن صنعنا "الصنم الغربي" بما حمل من عهر وإلحادٍ وكفر، وضعناه نصب أعيننا، لأننا نراه، فجعلناه وسيلة نرضي بها أنفسنا، يرزقنا، ويمدنا بالدواء، ويؤمن لنا نصوص القوانين، ويعلمنا كيف نجمع المال، وإلى ما هنالك من "خير" (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)، خيرات نزّلها الله لعباده دون واسطة فأبينا أن يكون لنا في تحصيلها إرادة أو بصمة لتاريخ أبنائنا!
وهكذا، ينزغ الشيطان بيننا ويلعب لعبته، فيظلم الإنسان نفسه، مقتدياً أو مقتدى به، متكلماً أو مستمعاً، فاعلاً أو مفعولاً به.. وإنها لأيام تمرّ وستنتهي، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
قال ـــ صلى الله عليه وسلم: "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا".. لا بأس أن نستفيد من الغرب في جوانبه الإيجابية، التي أدت إلى صناعة حضارته المادية، لا بل هذه الاستفادة فريضة، خاصة فيما طوره من إسهامات للمسلمين، وحتى فيما للغرب فضل السبق فيه، كونها قيما إنسانية عامة، من المفروض استيعابها لإكمال مشوار عمارة الأرض.
ولكن، نجد أكثرنا حُكَّاماً ومسؤولين، كتَّاباً ومفكرين، والكثير من عامة الناس، منبهرين بكل ما له صلة بالغرب، نتبعه ونقلده، في أسلوب طفولي، في كل ما له علاقة بالقشور.. كل حسب حاجته وكل حسب أهدافه!
نقلده في طريقة اللبس والأكل والاحتفالات، وطريقة الكلام، وغيرها، لنظهر بمظهر نقول بأنه حضاري! تقليد لا يمكن فهمه إلا من خلال ارتباط شرطي لاواعي موجود في ذهن فاعله، متولد من هزيمة نفسية لا واعية متولدة من الشعور بتفوق "الآخر"، كما نظَّر لذلك ابن خلدون في أن: "المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في زيه وشعاره ونحلته وسائر أحواله وعوائده"!
وأكثر ما تتجلى هذه النفسية، في استعمال الكلمات الأجنبية وإقحامها في سياق الحديث دون مبرر فعلي، كوسيلة لإظهار قائلها إنه متحضر وعصري، وكأنه ينخلع من الثقافة العربية، كونها، وهو على هذه الحال، ثقافة مُتخلِّفة! كذلك، أينما اتجهت سترى شيوع إطلاق الأسماء الأجنبية على الفنادق والشوارع وحتى على دكاكين الشاورما!
وأكثر ما يدمي القلب هو سلوكيات أكثر الشباب والفتيات المراهق، للأسف، لا بل ولم يسلم من سلوكيات التقليد والانبهار حتى الكبار! وربما كانت الطامة الكبرى، التأثر الشديد لحياتنا الثقافية والفكرية، إذ نلمس توجهاً كاد أن يصبح عرفاً في تأكيد المعلومات والأفكار والتوجه الثقافي.. إذ إن أحدنا إذا أراد أن يؤكد حقيقة ما فإنه يضطر، في أحايين كثيرة، إلى إسناد الحقيقة إلى "الآخر" لعلمنا أن المتلقي إذا سمع هذه اللازمة ألقى سمعه بعناية! حتى بعض الدعاة إذا أرادوا تأكيد أمر ما في عظمة الدين الإسلامي راحوا يستشهدون بأقوال هذا العالم الغربي أو ذاك من المفكرين والمستشرقين، وربما كان المستشهد به لا اعتبار له في بلده! لأنهم يعلمون بأنهم لو اقتصروا على الاستشهاد بعلماء المسلمين لما وجدوا آذاناً صاغية كما يجدونها حين يستشهدون بالآخر حتى لو كان على غير ملتهم..!؟ فيبدأون بالقول: "قال باحثون غربيون كذا وكذا.." حتى لو كان القرآن الكريم أو السُنَّة الشريفة قد سبقت هؤلاء في تأكيد المعلومة أو نفيها!
كل ذلك، يؤدي إلى تثبيت عجز المسلمين وتقهقرهم ودونية النظر إليهم وإلى دينهم وثقافتهم وتاريخهم، ومكانتهم المؤثرة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وأنى لنا أن نحلم بقيادة البشرية وتقديم مشروعنا الحضاري ونحن لا نزال أمَّعة مقلدين مبهورين مستلبي الإرادة والقرار؟
فهل تقليد الغرب في قشوره سوف يساعد على تدفق الحضارة الغربية المادية إلى شوارع العالم العربي؟ لقد ترسَّخَت عقدة "الآخر"، بعد طول أمد الهزيمة الحضارية، ولن أعدد هنا الوسائل والطرق التي أدت إلى دخول هذه الثقافة والأمعية.. وأكتفي بحديث المصطفى ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ القائل: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ إِذَنْ؟"!
|