تكميم الافواه وحرق الاجساد

اجتمعنا من شعوب عربية عدة في مناسبة اقيمت في ولاية امريكية وفوجئنا حينها بامريكي يسألنا : هل توجد لديكم حرية رأي ومعارضة سياسية ؟. وقبل ان نعدل من جلساتنا بحثآ عن جواب , سبقنا من كنا نظنه ابعدنا عن امور السياسة العربية بالرد الفوري وبصوت عالي مسموع : نعم !! . حينها التفتنا اليه نحن العرب وتركنا الامريكي وسؤاله وقلنا بصوت واحد : أين .. ؟ . فرد مبتسمآ وبخبث : على جدران دورات المياه !!! . لا اعلم لما عادت الي هذه القصة المضحكة المبكية وانا اتابع المشهد السياسي التونسي والثورة الشعبية الشاملة لشعب نصف جائع من الطعام ولكنه يتلوى جدآ من شدة الحرمان من حقوق حريته في التعبير وفي ممارسة شعائر دينه . مؤلم ان تعيش في القرن الواحد والعشرين وبعد اربعة عشر قرنآ من تحرير العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد ان هناك من اشرار العباد من يحكم بالحديد والنار شعوبآ مقهورة مطحونة لا تستطيع في الحد الادنى ان تقول للفاسد : كفى !! .

وفي الوقت الذي يصدح فيه علماء الأمة بتحريم حرق النفس وهو ما أؤيده بلا تردد , الا ان السكوت عن دافع هذا الحرق وهو تكميم الأفواه واغلاق الطرق امام حرية التعبير يبدو اشد الحاحآ بالنكران والتحريم . من المحيط الى الخليج انواع شتى من الحكومات تحت مسميات ملكية واميرية وسلطانية وجمهورية وهزلية ( اشتراكية شعبية ) .. كلها تختلف في المسمى وتتشابه في الممارسة القمعية لشعوب تنشد الحرية في التعبير وطرح الاراء . تختلف القابهم وتتماهى عروشهم وتتسابق الى سويسرا ضخامة ارصدتهم يعرفون بكل شيء ويسمعون عن كل شيء ولكنهم لم يدركوا ابدآ مقولة نبيهم : (( كل ابن ادم خطاء )) . تبؤوا مناصب قيادية جعلتهم تحت الاضواء الاعلامية والانظار الجماهيرية , ولكن اباحوا لانفسهم التلذذ بمديح الاشعار التزلفية واستكثروا على الناس الجهر باحرف النقد والنصائح التذكيرية .

كان من الممكن للنخب السياسية اللجؤ الى فرية الدافع الاقتصادي والفقر المدقع والعوز الملح لالصاقها كتهم ودوافع لهذا التحرك الذي بدأه البوعزيزي واكمله الشعب التونسي لولا ان تونس وشعبها يعيشون رغدآ مقبولآ لو تمت مقارنته مع دول اخرى اشد فقرآ وحاجة . وكما ذكر احد الدعاه التونسيين الذي فرض عليه الهجرة بدينة من وحشية بن علي .. يقول ذلك الشيخ الفطن : صمت الناس عن الحرية لأجل الخبز .. ففقدنا الحرية والخبز . وذلك ان فقد الحرية يعني تمدد طاغوت الديكتاتورية التي دائمآ ما يصاحبها الفساد والمحسوبية , وليس لبلد يضربها الفساد المحتمي بجبروت السلطة ودعمها الا ان يفقر اشد البلدان رخاء ويحولها من جنة للعيش الى سجن كبير مدقع يعز فيه الخبز على احراره الشرفاء .

يرفل اوباما اليوم في اركان البيت الابيض لفترة رئاسية واحدة ان احسن فيها ادارة حكومته ربما يتبعها باربع سنوات اخرى منتخبة جماهيريآ , وبعدها عليه ان يترجل فالأمة الامريكية لن تعجز ان تأتي بمواطن اخر يقودها كما فعل اوباما ومن حكم قبله . وحين يترجل سيصطف اوباما الى جانب خمسة رؤساء امريكيين آخرين خرجوا من البيت الابيض وعادوا الى المواطنة الامريكية شرفاء نزهين يحظون بتقدير الشعب كمواطنين كما عاشروه كرؤساء . في عالمنا العربي من المستحيل ان تجد رئيسآ سابقآ ادى دوره القيادي ثم تخلى عن السلطة من تلقاء نفسه , فكما قيل : ملك الموت هو الناخب الوحيد الذي يعزل رئيسآ ويمهد لمجيء غيره في عالمنا العربي المسكين .

كلهم يحكمون بأسم الدستور والذي هو بالطبع ليس قرأنيآ ولكنه قميص مفصل لا يسع الا الحاكم ولا يمكن خلعه الا ليرتديه وارثه من ابناءه ومقربيه . حيثما نظرت يمينآ او شمالآ في عالمك العربي وتحت كل المسميات المختلفة ستجد ان التوريث هو السمة السائدة لاعلى المناصب واقلها , وسواء في الحياة المدنية او العسكرية . وستجد ان المصاهرة للثروات المالية هي السبيل الوحيد للانضمام لتلك النخب الحاكمة , وهي الوسيلة الوحيدة لافادة الطرفين في البحث المشترك عن ما لدى الطرف الاخر , فأحدهم يعرض النفوذ لمزيد من المال والاخر يقدم المال لشراء النفوذ . وبين رغبة هذا وتجاوب ذاك تعم السرقة ويستشري النهب للمال العام . وفي الوقت الذي تغرق فيه حساباتهم البنكية بأنهار خزائن الدولة التي تأتي بها المنح والمناقصات والاعفاءات تبدأ صنابير قوت الشعب بالتناقص وضعف التدفق حتى لا يجد المسكين بدآ من حرق نفسه امام اعين المارة كسبيل وحيد بعد ان تم اغلاق فمه دون الشكوى من قلة الماء والمال .