تفسير سورة التين ..
إن الله أنزل القرآن الكريم من أجل أن يتلوا المسلمون آياته ويتدبروا أحكامه ويعملوا بمقتضاه يقول الله تعالى ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء (82) , فتدبر القرآن مطلب ومبتغى لكل مسلم صالح من أجل أن يعرف أوامر ربه فيتبعها ويستقيم على شرع الله وينتهي عن نواهيه .
وسنتناول تفسير سورة التين بشيء من الاختصار وسنبين تفسيرها عبر أقوال المفسرين المعتبرين كمثل الطبري وابن كثير لعلنا نخرج بفوائد ينتفع بها أهل التدبر , يقول الله تعالى في بداية السورة ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ )(1) , قال ابن عباس والحسن ومجاهد : هو تينكم الذي تأكلون , وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت قال الله تعالى ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) المؤمنون , والمقصود بها شجرة الزيتون , والله أقسم بهاتين الشجرتين المباركتين لبركة أرضهما ومواضع تكاثرهما , وذكر الشجرتين هو إشارة لمنابت تلك الشجر ومن المعلوم أن منابت التين الأصلية هي دمشق وضواحيها وهذا مشهور في القديم , ولبركتها سينزل فيها عيسى في آخر الزمان ويحكم الأرض , أما أرض الزيتون هي الأرض المباركة أرض فلسطين وخاصة منها بيت المقدس وما حوله من قرى , وأرض فلسطين كلها مباركة فهي أرض الأنبياء ومكان الإسراء والمعراج والشام كلها أرض المحشر .
(وَطُورِ سِينِينَ )(2) , روى ابن أبي نجيح عن مجاهد " طور " قال : جبل . و " سينين " قال : مبارك , بالسريانية . وعن عكرمة عن ابن عباس قال : ( طور ) جبل و ( سينين ) حسن . وقال قتادة : ( سينين ) هو المبارك الحسن . وعن عكرمة قال : الجبل الذي نادى الله جل ثناؤه منه موسى عليه السلام , وقال كعب الأحبار وغير واحد هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام , وهنا يتعرض ربنا في هذه الآية بذكر المواطن المباركة وهذا الجبل من المواطن المباركة والتي ارتقى فيها موسى ليكلمه ربه وظل في أعلى ذلك الجبل معتكفا طيلة أربعين يوما وقصته وردت في القرآن الكريم أكثر تفصيلا وخاصة في سورة طه .
( وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (3) , وأقسم الله كذلك بمكة بلد الله الحرام قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة , وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا وهو الذي بعث فيه محمدا صلى الله عليه وسلم , قال تعالى ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) , ونهى الله أن يتقاتل الناس فيه بل الآثام فيه مضاعفة , قال تعالى ( وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) البقرة (191) , فهذا البلد تعظمه قديما كل قبائل العرب في الجاهلية والإسلام وما زال معظما اليوم في نفوس المسلمين ولا يبغضه إلا كافر مشرك يحارب الله ورسوله.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (4) , وهذا جواب القسم أي من أجل هذا كان القسم , أي أن الإنسان في أعدل خلق وأحسن صورة , و قيل ذلك لأنه ليس شيء من الحيوان إلا وهو منكب على وجهه غير الإنسان , ولقد زينه الله فجعله منتصب القامة يأكل بيديه ويقف على قدميه ذو خلقه حسنة وعقل حسن , يتكلم ويضحك فتبارك الله أحسن الخالقين .
( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) (5) , فعن حماد عن إبراهيم , قال : إلى أرذل العمر , وعن معمر , عن قتادة قال : رددناه إلى الهرم , وهو سن الشيخوخة وسن الخرف , أي أن قوته في كل شيئ تتناقص بتقدمه في العمر ويقال أن سن الأربعين هي بداية الانحدار والضعف قال تعالى ( حتى إذا بلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ) فهي بداية التودع من تلك القوة التي أعطيها .
( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (6), وقوله : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } اختلف أهل التأويل في معنى هذا الاستثناء , فقال بعضهم : هو استثناء صحيح من قوله { ثم رددناه أسفل سافلين } قالوا : وإنما جاز استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وهم جمع , من الهاء في قوله { ثم رددناه } وهي كناية الإنسان , والإنسان في لفظ واحد , لأن الإنسان وإن كان في لفظ واحد , فإنه في معنى الجمع , لأنه بمعنى الجنس , وعن ابن عباس يقول : إذا كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها , ثم كبر حتى ذهب عقله , كتب له مثل عمله الصالح , الذي كان يعمل في شبيبته , ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره , وذهاب عقله , من أجل أنه مؤمن , وأنه كان يطيع الله في شبيبته , ومن الملاحظ أن الصالحين هم أكثر الناس أحتفاظا بصحتهم ونشاطهم وأنها ترحل عنهم ببطء حتى يأتيهم اليقين , وهذا من نعمة الله عليهم فكثير منهم يبلغ التسعين وهو محتفظا بعقله قادرا على الحركة والصلاة في المساجد وهذا كله من حفظ الله لهم .
( فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (7) , القول في تأويل قوله تعالى : { فما يكذبك بعد بالدين } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { فما يكذبك بعد } فقال بعضهم معناه : فمن يكذبك يا محمد بعد هذه الحجج التي احتججنا بها , بالدين , يعني : بطاعة الله , وما بعثك به من الحق , وأن الله يبعث من في القبور ؟ قالوا : " ما " في معنى " من " , لأنه عني به ابن آدم , ومن بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما يكذبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين .
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) (8) أي أليس الله يا محمد بأحكم من حكم في أحكامه , وفصل قضائه بين عباده ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ تلك الآية قال : بلى . وعن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : " بلى , وأنا على ذلك من الشاهدين " . وعن سعيد بن جبير , قال : كان ابن عباس إذا قرأ : { أليس الله بأحكم الحاكمين } قال : سبحانك اللهم , و بلى .
هذا باختصار تفسير هذه السورة .... والحمد لله رب العالمين .
|