الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
من الموازين الَّتي انقلبت والمعايير الَّتي اختلَّت عند أكثر المسلمين اليوم، أن صار أحدنا لا يفرِّط في حقوقه على غيره أبدًا، ولا يتنازل عن شيء منها، وإن فَعَلَ فَعَلَى مَضَض، ولو سلب منه قدر يسير لوجد في نفسه، وتألم لذلك تألمًا شديدًا، وقد يبذل الجهد المضني، ويركب المشاق المكلفة لاسترداد حقِّه واسترجاع ما أخذ منه والمطالبة به، وأمَّا إذا تعلَّق الأمر بحقوق الله - عزَّ وجلَّ - فقد يعتدَّى عليها جهارًا نهارًا فلا يغضب ولا يتأثر، ولا يحرِّك ذلك شعرة من بدنه، ويشاهد ألوانًا وأصنافًا من الشِّرك تضرب بأطنابها خلال الدِّيار ولا يذرف دمعة واحدة على أعظم حقٍّ من حقوق ربِّه - عزَّ وجلَّ - وهو التَّوحيد، ولا يبذل في سبيل تصحيح هذا الوضع شيئًا يُذكر؛ وتراه يمتلكه الغضب مرَّة أخرى ويثور ويملأ الدُّنيا ضجيجًا وصخبًا عند سماعه أو قراءته لخبر مفاده أن مسؤولاً أو مديرًا اختلس مالًا من المال العامِّ أو نهب عقارًا من العقارات أو سطَا على بعض الممتلكات، لكنَّه لا يجد في نفسه تلك السُّورة الغضبيَّة عند مطالعته أو سماعه لخبر يفيد أنَّ في بلدةٍ ما أعيد بعث ضريح توقد عنده الشُّموع أو تشييد قبَّة يتمسَّح بجدرانها أو ترميم قبر يطاف حوله، يقف أناس على أعتابه بين يديه خاشعين ضارعين يلتمسون إمداده ومعونته، ويقدِّمون له القرابين والنَّفقات رجاءَ بركته وإجابته.
إنَّ قلب المسلم إذا كان مشبِّعًا بالتَّوحيد كاد أن يموت كمدًا إذا رأت عيناه أو سمعت أذناه مثل هذه المظاهر الشِّركية الَّتي تخرق الإسلام خرقًا، وتخدش التَّوحيد خدشًا؛ ووالله ليس شيء أضرَّ على الأمَّة أفرادًا وجماعات، حكَّامًا ومحكومين من أن يفشو فيهم الشِّرك المنافي للتَّوحيد، ثمَّ لا يُكاد ينكر، بل الأغرب والأعجب أن يُقدَّم على أنَّه الإسلام الذي لا بديل عنه!!
والمسلم المتَّبع لهدي نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكره ويبغض جميع الذُّنوب صغيرها وكبيرها دقّها وجلّها، لكن لا يخفى عليه تفاوتها، ففي «الصَّحيحين» سأل ابنُ مسعود - رضي الله عنه - النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيُّ الذَّنب أعظم؟ قال: «أَنْ تَجْعَلَ لله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قَالَ فَقُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، قَالَ: وَأَنْزَلَ الله تَعَالَى تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ_» الآيَةَ.
فهذا التَّرتيب يجعل الشِّرك بالله تعالى هو أعظم الذُّنوب على الإطلاق الَّذي ينبغي أن لا يستهان بأمره أبدًا؛ لأنَّ الشِّرك يقضي على كلِّ حسنة، ولا يدع لصاحبه نصرة ولا عزَّة ولا شرفًا، وينأى به بعيدًا عن ولاية الله ومغفرته، ويسحبه إلى الخذلان سحبًا، ويجره إلى النِّيران جرًّا، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (116)_ [النساء]، وقال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)_ [النساء].
فعلى المسلم أن تدمع عينه وتجزع نفسه على التَّوحيد، وأن يغار على جناب ربِّه - جلَّ وعلا -، وأن يضيق ذرعًا من وجود مظاهر الشِّرك كلِّها، فلا يرضيه إلاَّ أن يرى ظلال التَّوحيد الوارفة تظلل جميع القطر، ولا يقرّ له قرار إلاَّ إذا رأى قلوب أهل الإسلام قبل غيرهم متوجِّهة إلى ربِّها بالدُّعاء والاستغاثة والاستعانة والتَّوكُّل والخوف والرَّجاء وجميع أنواع العبادة، فلا يهدأ له بال ولا يجد راحة إلاَّ إذا تحقَّق ذلك، وإلاَّ فهو في سعي دائم وعمل متواصل لا ينقطع إلاَّ بالموت؛ لإصلاح هذا الوضع بالدَّعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - بكلِّ وسيلة مشروعة، وعلى قدر علمه ومنصبه وقوَّته وقدرته، فلا يتكلَّف ما ليس له، ولا يتخلَّف عمَّا هو تحت يده وتصرُّفه، فصاحب العلم بعلمه وقلمه، وصاحب المنبر بخطابه وفصاحته، وصاحب المال بماله وثروته، وصاحب المنصب والجاه بجاهه وشفاعته، وهكذا ...
فلو تقاسم الجميع وتحالفوا على جعل مسألة منابذة الشِّرك من قضايا المصير الَّتي لا يتنازل عنها قيد أنملة، وأن لا تغمض الجفون حتَّى لا يبقى أحد منَّا يسلب عن الله تعالى حقًّا من حقوقه أو خاصيَّة من خصائصه في ربوبيَّته أو ألوهيَّته أو أسمائه وصفاته، ويضيفه إلى أحدٍ من خلقه؛ من وليٍّ صالحٍ أو شيطانٍ مارد أو غيرهما، وأن يقال لكل ما سوى الله: إنَّما أنت عبد مخلوق لا ربٌّ معبود، وأنَّه لا إله إلا الله، لظهرت ثمار هذا العمل العظيم بادية للعيان، وصلح بها الدُّنيا والدِّين، مع نيل رضا الملك الدَّيَّان، فتهدأ النُّفوس وتطمئنُّ القلوب وتفتح الأرزاق وتساق الخيرات، وسيجد المسلمون سعادة الحياة وهناءتها.
وإنَّ مَن يشارك في هذا الإصلاح سيكون أنفع النَّاس لأمَّته، وأكثرهم عودًا عليها بالخير، وأعظمهم منَّة على الخلق؛ لأنَّ من علَّمك التَّوحيد كان فضله عليك أعظم من فضل والديك عليك؛ لأنَّ التَّوحيد هو مفتاحك إلى أكبر مطلوب وأفضل مرغوب وهو الجنَّة، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بالله شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّار» [رواه مسلم]، وفي رواية: «قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى! وَإِنْ سَرَقَ! قَالَ: وَإِنْ زَنَى؛ وَإِنْ سَرَقَ»، وقال الله في الحديث القدسي: «مَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» [رواه مسلم].
فإنَّه لو اجتمعت لنا الدُّنيا بحذافيرها ولم يسلم لنا توحيدنا وخالط الشِّرك قلوبنا، لكنَّا أشقى النَّاس وأتعسهم، ولو سلبت منَّا الدُّنيا برمَّتها وعشنا محقِّقين للتَّوحيد نابذين للشِّرك، لكنَّا أكثر النَّاس سعادة وتوفيقًا؛ وعلى هذا التَّصوُّر يبنى المجتمع المسلم الَّذي فَقَد مَجْدَه لمَّا أضاع عقيدةَ التَّوحيد، وإنَّنا والله جازمون من أنَّ أيّ إصلاح أو إصلاحات لا تقوم على هذا التَّصوُّر فهو إضاعة للوقت وتبديد للطَّاقة وتمديد في زمن تأخّر هذه الأمَّة، وتطويل لعمر الأزمة؛ لأنَّه إذا فسد التَّصوُّر فسد التَّصوير، وما بني على فاسد فهو فاسد، ولا ينتهي بصاحبه إلَّا إلى أمر كاسد.
فلا جرم أن يكون التَّوحيد مفتاح باب الإصلاح، وهو أوَّل سبيل الرَّشاد، وهو خطام وزمام التَّغيير، وهو منار طريق الخروج من كلِّ أزمة وضائقة؛ فليكن عليه مدار حياتنا وتفكيرنا وجميع تصرُّفاتنا ونرفع شعار: التَّوحيد أوَّلاً وآخرًا ...
م/ن