.. فيما قرأت أن هذه القصيدة قيلت عقب عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وليس عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة كما هو المشهور : بأن أهل المدينة المنورة قد استقبلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأنشودة عندما وصلهم مهاجرا من مكة :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وقد قال الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة : أما تلك الروايات التي تفيد استقباله صلى الله عليه وسلم بنشيد طلع البدر علينا فلم يرد بها روايات صحيحة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد نظر إلى الرواية من ناحية المتن، وأكد بأن هذه الانشودة قد قيلت عقب عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وليس كما هو شائع، ويدلل على قوله بأن ثنية الوداع ليس من طريق القادم من مكة جنوبا، بل من طريق القادم من الشام وتبوك شمالا، ويبدو أن ابن القيم قد اعتمد ما في البخاري من استقبال بعض أهل المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو عائد من تبوك عند ثنية الوداع، فجمع بين الروايتين.
وهناك بيتان آخران من الانشودة يتكرران على الألسنة لا وجود للأخير منهما فيما جاء بكتب السيرة وهما :
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع
وهذا النص على فرض أنه كان متصلا بالمقطع الأول فمن المستبعد أيضا أن يكون قيل في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم وقت الهجرة .. ذلك أنه حتى ذلك الوقت لم يكن قد تحول اسم يثرب إلى المدينة، بل إنه حتى وقت كتابة الوثيقة/ الدستور، لم يكن قد تغير الاسم، ويمكن لمتابع الوثيقة أن يقرأ فيها عبارة (وإن بينهم النصر على من دهم يثرب) .. وذلك بعد مدة من استقرار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيها، الغريب بعد كل الذي قرره العلماء الأجلاء والمحققون المعتبرون، لا يرغبون في اطراح هذه القصة، ولعل من أسباب ذلك أن مثل هذه القصة مما تعلمناه صغارا، وشكل عقولنا وأذهاننا، ويعز علينا أن نحذفه أو نلغيه، ولا ننسى أن هذه الرواية تعكس مشاعر المحبة الحالمة للكثيرين ممن يتمنون لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ويستبعدون أن يقدم الرسول إلى المدينة، وهو النور الساطع والبدر الطالع والسراج المنير، ثم لا يخرج الجميع في استقباله، يغنون وينشدون ويقيمون الأفراح والليالي الملاح ابتهاجا بهذه المناسبة العظيمة.
السطـر الأخـير :
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).