صور الحوار
للحوار عنصران : أطراف وموضوع. وثلاث صور: نقاش، وجدل، ومماراة. النقاش ما يتبادل فيه الأطراف خواطرهم وآراءهم حول موضوع، دون سعى أيهم الى إقناع الآخرين بما لديه، الاستطلاع ما يسود النقاش لا الرغبة في الإثبات أو النفي. الجدل حوار مفتوح النهايات بين آراء مختلفة، تسوده مساعي الإثبات أو النفي، دون إصرار من المُحاوِر على بلوغ الجدل نتيجة محددة لصالحه. المماراة كذلك حوار بين آراء مختلفة، صاحب الرأى فيها لا ينوى سلفا تغيير موقفه مهما كانت الدواعي، سواء لإيمانه بصحة ما يراه أو لأنه سيضار بشكل ما إن فعل، لذلك في المماراة إقناع الآخر ليست مطلوبة، وقضاياه غالباً لا يمكن حسمها ببرهان، والحوار ذاته بلا نتيجة على المتحاورين، مع ذلك يظل حواراً طالما هو حول موضوع، ومتقيد بشكليات الحوار.. الجدل أرقى صور الحوار، لشدة حاجة مقولاته للتربط المنطقي، حتى يطرد نحو نتيجة إيجابية ، إذا لم يطرد نحوها هو جدل عقيم، يرجع عقمه إلى ضعف منطقية المتجادلين وقدراتهم الحوارية.
من الفروق بين الصور الثلاث كذلك أن المناقشات والمجادلات لا تجري إلا بين أصدقاء، أو على الأقل بين من يضمرون مشاعر محايدة تجاه بعضهم، بينما يُغلف المماراة موقف خصومة، خصومة رأي قابلة للتحول إلى خصومة شخصية، لذلك تعتبر المماراة آخر أحوال الحوار قبل التردى إلى حيز السفاهة. لا أعني بالسفاهة قلة الأدب والتطاول ، فهذا هو الدرك الأسفل للسفاهة، يعلوه مستويات، لا يتقيد فيها الخطاب بأحكام المنطق، ويخلو من الموضوعية حتى إن بدا حول موضوع، لأن أهدافه لم تعد موضوعية ولا نواياه محايدة، لذلك لا تعد السفاهة حواراً إنما خطاب عديم القيمة أحياناً، وعدواني أحيان أخرى، ضد موقف أو شخص، خطاب لا يلتزم بموضوع أو منطق، وهي كما قلت درجات، أعلاها ما له مسوغ عادل ويتورع عن التجريح الشخصي ورداءة الكلام، إلا أنها في جميع درجاتها عديمة النفع، ضرر صورها الدنيا على المستعمل أكبر من ضررها على المستعملة ضده. المسامرات والأحاديث العابرة تدخل أيضا في باب السفاهة، إلا أنها في الغالب بلا ضرر، وقد تكون مفيدة في بناء العلاقات الإنسانية، كل حديث لا قيمة عقلية أو معرفية له هو نوع من السفاهة.
في الإعلام بكافة وسائله لا توجد حوارات، على كثرة ما فيه من مناظرات وبرامج توك شو، وإن وجدت وهذا نادر فهي مماراة، ذلك راجع إلى أن وظيفة الإعلام الأساسية دعائية، هذا لا ينتقص من أهمية وسائله كأدوات إبلاغ تقدم خدمة ضرورية في المجتمعات المعاصرة، لها فوائد قد يكون بينها التثقيف، إلا أن البحث عن الحقيقة ليس بين أولوياتها، ولا الحيدة من مبادئها وإن ادّعت، لذلك صعب على وسيلة إعلام كسب ثقة الجمهور، ذلك أن المتلقي يفترض عنها بداءةً ضعف الجدية ونقص الأمانة، ولكي تكسب ثقته جزئياً فعن طريق غير مباشر وطويل.
محمد علي باناجه
نقلآ عن صحيفة المدينة
|