القواسم المشتركة
اقتضت حكمة اللـه سبحانه وتعـالى وإرادته أن جعـل الناس مختلفـين، مختلفين في أشكالهـم، وفي ألوانهم، وفي طبائعهم وسلوكاتهم، وفي أفكارهم ومعتقداتهم، وفي آرائهم وقناعاتهم، وفي أساليب تعاملهم وعلاقاتهم، وفي لغاتهم وطرائق تفكيرهم، وفي قيمهم وعاداتهم، قال تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} سورة هود الآية 118.
الاختلاف سنّة من سنن الله الثابتة في بني البشر كافة، على مر الأزمان، واختلاف المكان، وقد أثبتت الخبرة البشرية أنّ الاختلاف أمر محمود بل مطلوب، لكونه مصدر إثراء وإغناء، وأنّ في الاختلاف تنوع أكسب الحياة حيوية وبهجة وسعة، ولولا هذا الاختلاف لأصبح الناس في هذه الحياة نسخاً مكرورة لا طعم لها ولا رائحة، لا قيمة لهم ولا فائدة، هذا يشبه ذاك والكل نسخة مكرورة من الآخر لا يتميّز عنه ولا يختلف، وبالتالي لم يعد لهذا الكم البشري أي قيمة لكون أي أحد منهم يمثل البقية ويغني عنهم، ولكنها حكمة الله البالغة التي جعلت الناس مختلفين، اختلاف تنوع لا تضاد، اختلاف إثراء لا إقصاء.
وعلى الرغم من أنّ صور الاختلاف قديمة معروفة، إلاّ أن كل طرف اختلف عن الآخر يأخذ منه موقفاً حذراً ومحذراً، وكل طرف يزعم أنّ الحق معه، وأنه وحده الأصوب، وبالتالي هو الأولى بأن يسمع قوله، وأن يطاع أمره، لهذا فهو يرفض الطرف الآخر، بل يعدّه خارجاً عن الإطر الفكرية والمجتمعية التي يتقبّلها المجتمع ويرتضيها، عندئذ تتعالى الأصوات اتهاماً وطعناً وسباً وإقصاءً ورفضاً وتنقيباً عن السقطات والهفوات، وتأويلاً للمواقف والمقولات، وتحليلاً خارج السياقات، كل هذا وغيره كثير من عناوين التربُّص والتتبُّع من أجل إظهار الطرف المختلف بصورة مشوّهة في أذهان المتلقين، وبالتالي الابتعاد عنهم والحذر منهم وعدم تصديقهم.
لقد أفضى هذا التناحر بين المختلفين إلى تناطح لفظي، وصراع فكري، وفوضى في المواقف، وحيرة في الاختيارات، فلم يعد أحد يعرف أين يتجه، وأين هو الحق الأولى بالاتباع، حيرة شلت العقول، وحقنت النفوس بغضاً وكراهية، وعندما تتفحص أوجه الاختلاف تجدها هامشية ثانوية، وأنها ليست بذات وزن ولا قيمة، لاسيما عندما تجرى مقارنة بينها وبين أوجه التوافق، أو بينها وبين ما يعد من الثوابت المشتركة التي تحظى بالإيمان عند كلا الطرفين.
الاختلاف سنّة من سنن الله التي ارتضاها لبني البشر كافة، هذه حقيقة ثابتة، لذا يجب الإيمان بالاختلاف وتقبُّله، واعتباره أهم مطلب حضاري وثقافي، مطلب لإثراء مصادر المعرفة وتنويعها، ومطلب يفضي إلى توسيع سبل التواصل بين البشر ليس بين ذوي الأصول العرقية أو اللغوية والثقافية الواحدة فحسب، بل بين البشر على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأعراقهم ومللهم ونحلهم، هذا ما بيّنته الخبرة البشرية ودلّت عليه، لذا حري بالمختلفين وأخص أولئك المنتمين الملتئمين تحت مظلة عرقية أو دينية أو لغوية وثقافية واحدة، عليهم أن يتفهّموا هذه الحقيقة ويعملوا على تعزيزها، وتوطين أنفسهم على قبول الآخر والرضا به.
وحتى يعم الأمن الاجتماعي والنفسي، يجب أن يحتكم المختلفون عند القبول أو الرفض، عند التأييد أو الاعتراض إلى الثوابت التي يؤمنون بها، سواء كانت دينية أو قيمية واعتبارها مرتكزات ومحكات ومعايير يرجع إليها كي تضبط مواقف وآراء وسلوكات كل فريق تجاه الآخر عند مناقشة موضوع الاختلاف والبحث فيه، أي التركيز على موضوع الاختلاف والبعد كل البعد عن شخصنة الاختلاف والتعرُّض إلى ذوات الأشخاص والبحث في هفواتهم وسقطاتهم، هذا النهج الأحول هو الذي أفسد مناخات التفاهم والتقارب، وأدى إلى التدابر والتناحر.
إنّ البحث في القواسم المشتركة المتفق عليها - وهي الأكثر - أولى من البحث في أوجه الاختلاف وهي حتماً الأقل، وبهذا تقوى أواصر اللحمة المجتمعية، وتأتلف القلوب، وترتاح النفوس من قلق التتبُّع الذي أفضى إلى التشظي إلى دوائر ضيقة مساحة وفكراً.
د. عبدالله المعيلي
نقلآ عن صحيفة الجزيرة
|