بسم الله الحمان الرحيم
أيها المسلمون اعلموا أن الدنيا ليست بدار بقاء ولا خلود وإنما أنتم عما قليل منها تظعنون وما هي إلا أيام وعنها ترحلون ثم أنتم بين يدي ربكم تحاسبون فماذا أنتم يومئذ قائلون إذا أبدت لكم الصحف العيوب وشهد عليكم السمع والأبصار والجلود.
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا
[الكهف:49].
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون
حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون
[فصلت:19-21].
فيا ويح ابن آدم يستخفي من الناس بالمعصية ويغفل عن جلده وسمعه وبصره لا يستتر منها ينسى أنها ستشهد عليه
وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين
.
أهلكتهم غفلتهم عن جلودهم وسمعهم وأبصارهم التي لا تفارقهم والتي لا يفوتها شيء من معاصيهم والتي تشهد عليهم وتفضحهم ووالله إنها لفضيحة كفيلة بأن تنغص على الإنسان دنياه كلها تشهد عليه بين الخلائق وتفضحه بأعماله وأقواله القبيحة وينكشف كذب الإنسان وينكشف ظلمه وينكشف فجوره وتنكشف نواياه ويصبح عاريا من كل شيء العري المعنوي بعد العري الحسي ويخذله الشيطان الذي كان يقاومه في الدنيا ويشجعه على معصية الله ويحثه على المخالفة ويزين له أعماله الخبيثة وأقواله اللئيمة .. وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين.
فيا ويل الغافلين ويا ويح المفرطين فالعجب كل العجب ممن يخشى من رقابة البشر الذين ينعسون وينامون ويتغوطون ويبولون وينسون ويغفلون ولا يخشى من رقابة الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم
يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهمإذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا
[النساء:108].
فالحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات كلها ووسع بصره الموجودات جميعها ووسع علمه الأشياء كلها دقها وجلها .. إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .. فأين تذهبون وإلى أين تفرون .. يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر .. فلا مفر منه إلا إليه فخير لكم أن تفروا إليه من اليوم منيبين إليه معترفين بذنوبكم بين يديه مطهرين نفوسكم وقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم من كل زلل وغي .. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين .. وتزودوا ليوم المعاد ولا تلهكم دار الغرور والهوان فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء .. كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .. فأعدوا ليوم الدين عدته ومن أراد الفوز والنجاة فليعمل حتى تأتيه بغيته فإن المولى جل وعلا أبى أن يكون الفوز إلا لأهل التقوى الذين حصلوا طرقها وأسبابها فوعدهم ووعده الحق بقوله:
ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم:72]. وقال عز وجل:
إن للمتقين مفازا
[النبأ:31]. وقال سبحانه:
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون
[النور:52]. من التقوى أن يستعد العبد ليوم البعث والنشور فالتقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
فلا يكن استعدادكم ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان فإن أهل معصية الله إنما عصوه وخالفوه لقلة يقينهم بلقائه ووقوفهم بين يديه في انتظار ثوابه أو عقابه فقادتهم غفلتهم عن وقفة الحساب إلى الاستمرار في المخالفة والعصيان والتمادي في التفريط والإهمال لا يذكرون عن مقامم بين يدي الله الملك الديان
ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون
ليوم عظيم
يوم يقوم الناس لرب العالمين
[المطففين:4-6]. فيقومون في رشحهم وعرقهم وهولهم ورعبهم وغمهم وكربهم وبؤسهم ونكدهم خمسين ألف سنة في انتظار فصل القضاء والقصاص بينهم في محكمة الله العادلة لا يخاف فيها المؤمن ظلما ولا هضما
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين
[الأنبياء:47]. فالعاقل من دان نفسه وحاسبها وعمل لذلك اليوم
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون
[الحشر:18]. خبير بأعمالكم خبير بأقوالكم خبير بمشاعركم وما تكنه قلوبكم
وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين
[النمل:74-75].
فهل أصلحت قلبك استعدادا للقاء الله
يوم لا ينفع مال ولا بنون
إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء:88-89]. هل طهرت قلبك من الشك والرياء هل طهرته من الظنون ومن التعلق بغير الله أو التوكل على غير الله هل طهرته من خوف ما سوى الله هل طهرته من كل محبة سوى محبة الله والحب في الله هل طهرته من أمراض الحقد والحسد والغل لإخوانك المسلمين
والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
[الحشر:10].فأصحاب الجنة هم أصحاب القلوب السليمة الهينون اللينون وقد أتاكم من مقال نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله
(يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير))
[1]وقال يزيد بن أسد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(أتحب الجنة؟))قلت: نعم قال
(فأحب لأخيك ما تحبه لنفسك))
[2]فكونوا من أهل الإيمان الصادقين الذين سلمت قلوبهم لله وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين فيحبون لهم ما يحبون لأنفسهم ويظنون بهم الخير ولا يظنون بهم السوء فكونوا أيها المسلمون من أهل القلوب السليمة قابلوا الإساءة بالإحسان والخطيئة بالغفران والغلظة بالرفق والجهل بالحلم والعبوس بالابتسامة
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
[فصلت:34]. وليس ذلك ضعفا كما يظن الجهال المتكبرون وليس ذلك نفاقا أو كذبا كما يزينه الشيطان للمغرورين المفتونين وإنما هي منزلة عظيمة لا يقوى عليها إلا الأفذاذ والصابرون من الرجال وأصحاب النفوس العالية الصابرة
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
[فصلت:35]. ولا يخدعنكم الشيطان الذي يكره الخير للمسلمين فيصور لهم العفو ضعفا وحسن المعاملة ومقابلة الإساءة بالإحسان نفاقا وعجزا ليغري المسلمين ببعضهم بعضا فالمبادرة عباد الله فوتوا عليه غرضه
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم
[الإسراء:53].
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
[المائدة:91]. إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم فانتبهوا عباد الله وأصلحوا قلوبكم فصلاح القلب هو أول عمل تستعدون به لمفارقة هذه الدار دار الغموم والأسقام وغدا ترحلون عنها إلى دار بقاء بلا زوال ودار نعيم بلا هوان ووالله لو صلحت القلوب لصلحت الأقوال والأعمال((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))