دموع.. ووعد! بتال القوس ll
دموع.. ووعد!
بتال القوس ll
================
الليلة المنتظرة، الصغير ذو الأحد عشر ربيعا يتصل بوالده رئيس النادي ويقول بحماس: أمي وافقت سأذهب معكم إلى الملعب غدا، وببراءة ناصعة يتابع: إذا فاز النصر سأقدم للاعبين مكافآت، وفرت من مصروفي طوال عام انتظارا لهذه اللحظة. الأب يضحك.. ويضحك، ويجيب: إذا فزنا هديتك مجزية، سأنتظرك في الملعب.
السفاح ذو اليسرى القاتلة نواف العابد، يتقدم للركلة الأخيرة، الطفل المغرم بالأصفر يغطي عينيه ويسترق النظر بين السبابة والوسطى، الكرة إلى الشباك ودموع حارقة تنساب على وجنتي العاشق الصغير مدرارا، توسلات والده ومحاولاته جبر كسر فلذة كبده لا تجدي.
المشهد موغل في الألم واليأس، اعتصر قلوب أغلب المشاهدين، لا يترك فرصة لاستدعاء الذكريات، لكنه فعل وما أشبه الليلة بالبارحة، ثلاثة وعشرون عاما مضت على آخر قطرة انسكبت من عيني الأب في حب معشوقه الأصفر، والفاعل الأزرق نفسه في ثلاثية المدافعين الشهيرة. الوالد يزفر بحرقة، يمسح دموع العاشق الصغير، يطبب جراحه بابتسامة مغتصبة في الجو الممتلئ خيبة قائلا: هذه الكرة يا تركي، عام 89 ذرفت دموعي مثلك عندما فازوا علينا، بعدها بسبعة أعوام جندلهم ذو القميص تسعة واحدا واحدا وعندما مرت الكرة بين قدمي آخر مدافع ''طبيت'' في المسبح بثيابي فرحا. الطفل المغرم يمتزج نشيجه بابتسامة طارئة ويسأل ببراءة: سنهزمهم؟ الوالد بحزم: أعدك.
تركي بن فيصل بن تركي، أحد عشر عاما ولد في واشنطن، عرف الرياض عرين أسرته التاريخي وهو ابن الرابعة، رضع حب الأصفر من والده العاشق المتيم، حين انتهت المباراة بخيبة كبيرة له اتصلت به جدته لأبيه تطلب حضوره حالا للقصر، لما رأته قالت وهي تعتصر جسده بحب وحنان: ياليتهم فازوا عشانك.
بعد يومين من دموع الصغير، الأب فيصل يطوف بنظره وسط خمسة آلاف متفرج يتقدمهم الروائي الأديب سيف الإسلام بن سعود صاحب الرائعة ''قلب من بنقلان''، كلهم احتشدوا والحدث الظاهر تمرين تفكيك عضلات، كلهم هتفوا: كحيلان.. كحيلان. روحه انقبضت، وكرة ساخنة تجمعت في أسفل قفصه الصدري وصعدت حتى الترقوة، وفتحت خزائن الذكرى مجددا، طاف به الخيال من جديد، قبل شهرين فقط كانوا يهتفون في المدرج ذاته بالألسنة ذاتها بالقلوب نفسها: ارحل.. ارحل.
ما الذي تغير؟ سأل فيصل نفسه. في أقاصي الوعي صوت يجيب: أنت.. أنت، وهم.. هم، الذي تغير أنك الآن في الطريق الصحيح. في اليوم التالي للزفة الجماهيرية سألت المهتوف باسمه: ما الذي تغير؟ قال: في بداية رئاستي للنصر اقترفت أخطاء فادحة في التعاقدات والإدارة، هذا الموسم تجاوزت الكثير منها، أشعر أني وضعت قدمي الآن على بداية طريق عودة الأصفر لماضيه التليد، قلت له: هل تعبت؟ أجاب: الأمر مرهق ماديا وصحيا، والداي وأسرتي يشعرون بذلك، ويطلبون مني أن أترجل. قاطعته: وأنت؟ قال: أنا أحب النصر. وتابع: ''عندما كنت طالبا في أمريكا في الثمانينات كنت أتصل على سنترال منزلنا وأطلب منه أن يضع سماعة التليفون أمام التلفزيون لأتابع مباريات النصر بالصوت فقط، بكيت لأجل الأصفر، واحتفلت معه، طربت له واشتقت له ولن أتركه حتى يجبرني على القفز في المسبح من جديد فرحا بعودته، أول مبلغ قدمته للنصر كان قليلا جدا في صفقة ستويشكوف، في أربعة أعوام مضت دفعت حتى اللحظة مائة وعشرين مليونا من جيبي الخاص''.
ما بين النصر وعشاقه علاقة مجنونة لا تفسير لها، مزجت الأرواح في الكيان، وهل يفسر الحب إلا بالحب، هؤلاء العشاق ظاهرة ينطبق عليها وصف الحجازي القديم ابن ذريح قبل ألف وأربعمائة عام حين قال:
لقد ثبتت في القلب منك مودة
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
|