لم يتبادر الى ذهني انني سوف التحم وجدانيا بشيء غير ثابت في عبوري كل اسبوع لعملي في القريه البعيده النائيه ... لايوجد سوى الجبال الجاثمه على طول ضفاف الطريق ، وبعض النبات المطري الذي يبست بعض اطرافه والتي تتلاعب به الرياح كيف مايحلوا لها ، والسماء الصافيه التي دائما مايجفل منها الغيم ، وطقس لاهب شديد حره ، وخيوط السراب الممتده ، الا ان المعلم المهم على هذا الطريق وعلى الديمومة بائع البطيخ ...
موقع صغير اخذا جانبا ضيقا وحيزا لايتسع لكثير من رصف البطيخ جنبا الى جنب ، ولذلك لا ارى سوى جبال من البطيخ
على هيئة اكوام متقاربه ، هذه اللقطه هي التي ارتسمت في
خيالي حينما التفت اليه عند محاذاتي له غير مبالي به ، وكأنه فارغا من بائعه ...
هو بشكل ادق ، كشك متواضعا اشبه مايكون كالعريش مسقوف ببعض القطع القماشيه المهلهله لتضفي عليه الظل الدائم الذي عاوضته عن اشعة الشمس الحارقه ...
في اول ارتحالاتي لم الق له بالا ، ليس لأني لا اشتهي اكل البطيخ او لا احبذه ولكن من اجل اني اكون مشحونا روحيا من فراق اهلي ، مودعهم الى غياب لم أألفه واتعود عليه ، ومغمورا بالوحده ، لا أنيس في رحلتي ولارفيق درب يطوي مسافات السفر الممله ...
لكن مع توالي الايام وتكرار السفر كنت اتشوق لتلك اللمحة التي ارى فيها الرجل الذي لم تتضح ملامحه بعد ، وكأنه لا يأبه بأصوات السيارات التي تمر من امامه اراه منهمكا في شغله وكثيرا مايتراءى راسه فقط من بين تلك الاكوام ومن النادر ان ارى سيارة واقفة امام عريشه للشراء ...
اصبحت ارسم ملامح للبائع شيئا فشيا من كثرت مروري من امامه الى ان تشكلت لدي ملامحه الكامله .. لا اعرف سر هذا الاهتمام به ومراقبته وثبات هيئته في ذكراتي حتى وان تجاوزته وابتعدت كثيرا عنه لم تزل هيئته تتجسد امامي في اطار الذاكره بكل التفاصيل وبإنهماكه المعتاد في رصف اكوام البطيخ بشكل انيق ومرتب ، احسست انه وهذا العريش موجدان من اجلي فقط رغم اني لم اقف يوما عنده ، وتيقنت ان هناك اشياء من حولنا تتبعنا وتحيط بنا كا الهاله الملتفه بأجسادنا .. ويبقى هناك لغز لانستطيع سبر اغواره وانما يتحرك في محيطنا فقط لنحس به ونشعر بوجوده لكن الاكيد ان هنالك اشياء ومحسوسات تريد لفت انتباهك وتبعث لك رساله لاتراها العيون ...
يوما من الايام كان مختلفا عن ماسبقه ، عند وصولي لعريشه لم اشاهد اكوام البطيخ امامي كما هو معتاد ولم ارى البائع واقفا او منهمك ويده يمررها على عينات من البطيخ وكأنه يرتب عليها كما يرتب الاب على ابناءه بحنان ورقّه ، تلتفت عيني حول العريش بلهف كانت تبحث عنه عن اثره راحت تنظر الى ماهو ابعد من محيط العريش علها تجد مايدل عليه ، شغلت عليه وساورتني افكار مؤلمه طول المسافة التي جاوزت عريشه الى
ان وصلت قريتي ...
وحينما رأيته الاسبوع الذي يليه سررت لرؤياه ، وتوقفت عنده لألقي عليه التحيه ، وعندما اقتربت منه وسلمت عليه ، رأيت وجهه المتسنير ضياءا وبهجه يشع النور من خلال ملامحه وتزينه لحية بيضاء كثه ناعمه تضفي عليه هيبه ووقار باديء لمن يراه ، رد عليّ التحية ، وحين ينظر الى جهة البطيخ اشخص نظري نحوه واذا هو يتمتم وانا اقلب البطيخ كنت اريد اكتشاف السر الذي يعصمني طول الطريق ماحكايته .. اكتشفت انه لايفتر من ذكر لله لسانه يلهج بالثناء والتسابيح لمولاه ، اخذت افاصله في السعر لأجلس اطول فتره ممكنه معه ، كان في كل ثانية ولحظه يردد من غير شعور اسمع همسه يقول الله ...
الآن استطعت فك سر الارتباط الروحي الذي كان يجذبني نحوه ..
رجل من الذاكرين الله كثيرا ، يكدح ويعمل ليس لدنياه الفانيه بل لأخرته ، وهذا العريش المتواضع كان عريش التقى والزهد و كانت تحفه الملائكه كل لحظه لما لا وهو يذكر الله في سكناته وحركاته دون ملل او كلل ..
ذهبت في طريقي وانا مشحون بالايمان ومتأثرا من منظره وورعه ، ومعي كوم من البطيخ المبارك الذي نبت وترعرع وسقته اليد الطيبه ...
طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة الفردوس الاعلى ...