أحمد لله على لطفه الخفي، وفضله وإحسانه الجلي، وأصلي وأسلم على النبي الأمي وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وبعد ..
فإن كثيراً من الناس يجهل تنوّع أسباب البلاء والمصائب وحِكم الخالق في ذلك، ويجهل تبعاً لذلك تنوُّع آثار النوازل والمصائب الشرعية والقدرية على من حلت بهم، فثمت أمور مهمة يجب إدراكها وإذا تحقق في الإنسان العلم بها، عرف أن لا تلازم بين نزول المصائب واختصاص من نزلت به بتعاظم ذنوبه على غيره ممن لم تنزل به مصيبة .
فلله حِكم لطيفة منها ما يند عن فهم أكثر الناس، بل منها ما لا يُدركه أحد من الخلق، فيستشكلون كثيراً من النصوص الشرعية من الوحي المبين، وما سمى الله نفسه بـ "الحكيم" إلا لدقة مقاصد ابتلائه الناس دقةً تستوجب طول التأمل، وحدة النظر، ومع ذا فقد لا يُدركها الإنسان وقد يُدرك شيئاً منها، وقد يُوفق الإنسان لإدراك أكثرها، فنحن نرى في "التاريخ" والحاضر الحاكم أو السلطان الذي بسط نفوذه على ولاياته ورعاياه، وتأتيه أخبار القوة والضعف والخير والشر يسوس أمر دُنياه فيَقسم ويُعطي ويمنع، ويَطلب عدوّاً ويَدفع، سياسةَ من عَرف مواضع الزيادة والنقصان، ولا يُدرك هذا أفراد رعاياه الذين سلطانهم على مواضع أقدامهم وبيوتهم، فهؤلاء الأفراد ربما سَخطوا من تلك السياسة، لأنهم لم يُدركوا ما أدرك، فإذا مضى الزمن اتضح لكثير منهم ما خفي عليهم من حِكم السياسة، ولو أُعطي الواحد منهم حسب رغبته وهواه لاضطرب العباد والبلاد، ومن تلك الحِكم التي تخفى عللها على أفراد الرعايا وإن صلحوا، ما روي في الصحيح عن سعد رضي الله عنه قال: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وسعد جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إلي فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا فقال: أو مسلما فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت: ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال: أو مسلما ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار».
فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى إعطاء المفضول وحرمان الفاضل لحِكمة خفية غالبة للقاعدة الأصلية في إكرام الناس بحسب تفاضلهم، وهي تأليف القلوب وكسب المودة، وهذا كما أنه حكمة بشرية بالغة في أبواب العطاء والمنع، حفظاً لتوازن العباد في الدين والدنيا، فهو في باب الحِكَم الإلهية في المنع والعطاء ألطف وأدق، لأن الخالق ألطف وأحكم وأعلم من العباد بحالهم.
فإذا كان هذا لحاكم يشترك ضعفاً وفاقة وجهلاً مع رعيته في جنب علم الله وقوته وحكمه ولطفه فالواجب أن ندرك أن لله حِكَماً كثيرة في سياسة الخلق تدق عن فهم كثير من العلماء، فضلاً عن العامة، له حكمة تناسب سعة علمه المطلقة، وللإنسان حكمة تليق بقلة علمه.
وكثير ممن ينظر إلى الماديات وأسبابها ولا يتجاوزها في تصرفات المخلوقين مع بعضهم، يطبق ذات النظر بنفس البساطة في تصرف الله في أحوال مخلوقاته، ويجهل أن الحكمة في وضع سير الكون وتنظيمه اقتضت أن يجعل الخالق حجاباً بين تصرفه في المخلوقات وأحوالها، وبين تصرف المخلوقات بإذنه في أنفسهم وأحوالهم بمقتضى الإرادة الممنوحين إياها.
وقد بين الله كثيراً من أصول تلك الحِكم بياناً مجملاً، وأخفى سبحانه أكثر الحِكم في آثار المصائب والمحن على العباد، فتظهر للإنسان حكمة وتخفى عليه حِكم، والإنسان فيها بحسب يقينه بالله وقوة إيمانه بأسماء الله ومعانيها، والتي منها (الحكيم واللطيف والخبير والقوي والعزيز والجبار) فمن صاحب يقينه بالله علم ومعرفة بأسماء الله وصفاته أدرك ما لم يُدركه غيره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» [رواه البخاري] .
</i></b>