|
التميز خلال 24 ساعة | |||
العضو الأكثر نشاطاً هذا اليوم | الموضوع النشط هذا اليوم | المشرف المميزلهذا اليوم | |
النصر-الوطن |
عضو جديد
بقلم : النصر-الوطن |
قريبا |
|
|
|
|
|
|
#1
|
|||||||
|
|||||||
بين علم الدلالة وعلم البيان عند الجاحظ مقاربة منهجية
إن الطبيعة الحقيقية للغة تكمن فقط فيما فيها من خلال فهم المعنى، و يلعب المعنى دورا كبيرا في مستويات التحليل اللغوي بدءا من التحليل الفونيمي، بل دورا كبيرا في تطبيقات كثيرة لعلم اللغة.وإذا كانت قضية المعنى قد تناولها في الأعوام الأخيرة علماء مختلفو الثقافة متنوعو الاهتمام و اشترك في مناقشتها الفلاسفة و المناطقة و الأنتربولوجيون،
و علماء النفس و دارسو الفن و الأدب، فإن علماءنا القدامى، كان لهم في حقل الدلالة أراء ثاقبة نقف عندها من خلال أراء الجاحظ الدلالية انطلاقا من كتابه (البيان و التبيين ) و سنتناول فيه: - مفهوم علم الدلالة في اللغة و الاصطلاح. - المدرسة البيانية عند الجاحظ. و نختم بالتعرض بإيجاز شديد لمفهوم الدلالة عند أعلام اللغة بعد الجاحظ. مفهوم علم الدلالة : لم يعد علم الدلالة الآن في حاجة إلى من يدافع عن وجوده، ويبرهن بالأدلة القاطعة و البراهين الساطعة على ضرورته، و يبرز الاهتمام به، فقد تخطى هذه المرحلة منذ زمن و صار الآن يلقى الاهتمام والدراسة في كل أنحاء العالم بقدر ما تلقاه سائر علوم اللغة أو اللسانيات… 1- تعريفه : أ- لغة : جاء في المعجم الوسيط لفظ : "دل عليه و إليه، يدلّ دلالة: أرشد، و يقال: دلة على الطريق و نحوه: سدده إليه، أو أرشده إليه، فهو دال، و المفعول مدلول عليه و إليه، و الدلالة و الدلالة: الإرشاد، و تطلق الدلالة على ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه من معنى أو معان". و في لسان العرب: "دله على الشيء يدله دلا و دلالة فاندل: سدده إليه، والدليل: ما يستدل به، و الدليل: الدال، و قد دله على الطريق يدله دلالة و دلالة و دلولة، والفتح أعلى. و الدليل و الدليلي: الذي يدلك. قال أبو عبيد: إني امرؤ بالطرق ذو دلالات. و الجمع أدلة و أدلاء، و الاسم الدلالة بالكسر و الفتح، و الدلولة و الدليلي. قال سيبويه: الدليلي علمه بالدلالة و رسوخه فيها و دللت بهذا الطريق: عرفته، و دللت به أدل دلالة، و أدللت بالطريق إدلالا و الدليلة، و المحجة البيضاء، و الدلال الذي يجمع البيعين و الاسم الدلالة و الدلالة ما جعلته للدليل أو الدلال"([1]). و في أساس البلاغة للزمخشري : "دله على الطريق، و هو دليل المفازة، و هم إدلاؤها و أدللت الطريق، اهتديت إليه و دله على الصراط المستقيم"([2]). ب- اصطلاحا : يعرفه بعضهم بأنه: "دراسة المعنى"، أو "العلم الذي يدرس المعنى"، أو"ذلك الفرع من اللغة الذي يتناول نظرية المعنى"، أو "ذلك الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توفرها في الرمز حتى يكون قادرا على حمل المعنى"([3]). و قد أطلقت على هذا العلم عدة أسماء في اللغة الإنجليزية أشهرها الآن: كلمة (Semantics). و أما في اللغة العربية فبعضهم يسميه علم الدلالة، بفتح الدال و كسرها و بعضهم يسميه علم المعنى، و بعضهم يسميه "السيمانتيك" أخذا من الفرنسية أو الإنجليزية. و المعنى: مجال ينجذب إليه كل المهتمين بدراسة الأحداث اللغوية من علماء اللسان و الفلسفة و علم النفس، و الأنتربولوجيا، و الأدب، و غيرهم. و كل طائفة تقوم بدراسة المعنى و مشكلاته من وجهات نظر مختلفة. - فالفلسفة تتناول مشكلة المعنى في مبحث "نظرية المعرفة، أو الإبستيمولوجيا". و هي تدخل إلى هذه المشكلة من مدخل العلاقة بين الألفاظ و المعاني، و طبيعة هذه العلاقة. و المعنى في الفلسفة معنى عقلي و ذهني. - أما المعنى عند اللغويين (اللسانيين)، فهو علاقة اعتباطية عرفية يحددها الاتفاق الجماعي و هم يركزون اهتمامهم على "المعنى الوظيفي". - و علم النفس يهمه التكوين النفسي للفرد مثل: الإدراك، و دراسة السلوك اللغوي، و كيفية اكتساب اللغة، و طرق تعلمها. - أما الأدباء و النقاد فهم يهتمون بالوسائل الفنية في التعبير عن الفكر، و من ثم فهم يبحثون في الحقيقة و المجاز و الصور الفنية وغير ذلك. كما أن الدراسة الدلالية لها تطبيقات كثيرة نراها في مجالات الطب النفسي و تعليم اللغات القومية و الأجنبية، و إعداد الخطب السياسية و تصميم الإعلانات التجارية … و يمكن حصر موضوع علم الدلالة بناء على ما تقدم في: "أنه كل شيء يقوم بدور العلامة أو الرمز. هذه العلامات أو الرموز قد تكون علامات على الطريق، أو تكون إشارة باليد أو إيماءة بالرأس، كما تكون كلمات و جملا، بعبارة أخرى، قد تكون علامات أو رموزا غير لغوية تحمل معنى كما تكون علامات أو رموزا لغوية". المدرسة البيانية عند الجاحظ :* قبل الخوض في تبيان أصول هذه المدرسة، لابد من التعرف على لفظة "بيان" في اللغة و الاصطلاح و مفهومها في القرآن الكريم . أ- البيان لغة : جاء في لسان العرب عند ابن منظور: "البيان ما يبين له الشيء من الدلالة و غيرها، و بان الشيء بيانا: اتضح، فهو بين. و البيان: الفصاحة و اللسن، و كلام فصيح، و البيان: الإفصاح مع ذكاء، و البين من الرجال: الفصيح. و فلان أبين من فلان، أي أفصح منه، وأوضح كلاما، و رجل بين فصيح" ([4]). و كلمة "بيان" تدور حول معنى الدلالة، والفصاحة و الوضوح، و الكشف و الظهور. ب- البيان اصطلاحا: "أصول و قواعد يعرف بها إيراد المعنى بطرق يختلف بعضها عن بعض، في وضوح الدلالة العقلية على نفس ذلك المعنى" ([5]). ج- البيان في القرآن الكريم : وردت لفظة "بيان" في القرآن الكريم ثلاث مرات: - في قوله تعالى: « هذا بيان للناس و هدى و موعظة للمتقين » سورة آل عمران، الآية 138 و المعنى هنا: أن القرآن الكريم فيه بيان الأمور على جليتها. - في قوله تعالى: « الرحمان، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان» سورة الرحمان، الآيات 4،3،2،1. قال الزجاج في تفسير قوله تعالى: "خلق الإنسان، علمه البيان": " قيل: الإنسان هنا: هو النبي – صلى الله عليه و سلم-، علمه البيان أي علمه القرآن الذي فيه بيان كل شيء، و قيل الإنسان: آدم- عليه السلام- و علمه البيان: جعله مميزا عن جميع الحيوان ببيانه و تميزه"([6]). وقوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه} سورة القيامة، الآية 19. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " أي بعد حفظه و تلاوته، نبينه لك، و نوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا و شرعنا". و في رواية ابن عباس و عطية العوفي: "ثم أن علينا بيانه": نبين حلاله و حرامه. البيان عند الجاحظ: جاء في كتاب (البيان و التبيين) في باب (البيان)، قول الجاحظ([7]) : " و على قدر وضوح الدلالة و صواب الإشارة، و حسن الاختصار، و دقة المدخل يكون إظهار المعنى، و كلما كانت الدلالة أوضح و أفصح، و كانت الإشارة أبين و أنور، كان أنفع و أنجع و الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله – عز وجل- يمدحه و يدعو إليه و يحث عليه، بذلك نطق القرآن، و بذلك تفاخرت العرب، و تفاضلت أصناف العجم. و البيان اسم جامع لكل شيء، كشف لك قناع المعنى، و هتك الحجاب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته، و يهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك، و من أي جنس كان الدليل لأنه مدار الأمر و الغاية التي يجري إليها القائل و السامع، و إنما هو الفهم و الإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام و أوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع،…. و جميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ و غير لفظ خمسة أشياء لا تنقص و لا تزيد: أولها اللفظ ثم الإشارة ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصبة. و النصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف، و لا تقصر عن تلك الدلالات و لكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها، و حلية مخالفة لحلية أختها ". فالبيان عند الجاحظ إذا هو: "اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، و يهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك و من أي جنس كان ذلك الدليل، لان مدار الأمر و الغاية التي إليها يجري القائل و السامع، إنما هو: الفهم و الإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام، و أوضحت عن المعنى، فذاك البيان في ذلك الموضع"([8]). قد تكون لفظة "بيان" من أكثر الألفاظ شيوعا عند الجاحظ، و بالأخص في كتبه، و قد توج بها عنوان ابرز كتبه في البلاغة و الأدب و نعني به كتاب "البيان و التبيين" و بالرغم من شيوعها و أهميتها و استئثارها بعنوان أشد مؤلفاته علاقة بالنقد و البلاغة، إلا أنها ظلت غائمة المدلول بعيدا عن التعريف و التحديد. و من خلال تتبعنا لها في مختلف المواضيع، فقد استطعنا أن نحصر معناها في مفهومين: مفهوم عام، و مفهوم خاص. أ- مفهوم عام: و تشير لفظ "بيان" إلى واقع التعبير عن معنى من المعاني بلغة ليست بالضرورة هي لغة الكلام، لكنها تتسع لتحيط بجميع وسائل التعبير الممكنة. و هكذا يكون مفهوم "البيان" من هذه الوجهة العامة، متجسدا بقول الجاحظ، يصح اعتبارها تعريفا أوليا به، جاء فيها: "و الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان… "([9]). ب- مفهوم خاص: غالبا ما يستعمل الجاحظ لفظة "بيان" للدلالة على بلاغة التعبير بلغة الكلام المقول، أو المدون وحدها دون سائر أشكال البلاغة في وسائل التعبير الأخرى. و من هنا فان المعنى الخاص لمفهوم "البيان" يقتصر عنده فقط على هذا المدلول وحده دون غيره، و يصبح هكذا مرادفا للفظة "بلاغة" التي يكرسها عند الحديث عن الأدب لهذا المدلول دون سواه. أنواع الدلالات عند الجاحظ: و إذا عدنا إلى المفهوم العام لكلمة "بيان" عند الجاحظ و الذي يعني "الدلالات الظاهرة على المعنى الخفي" و يمكن حصرها في خمسة أقسام: اللفظ، و الكتابة، و الإشارة و العقد و الحال أو النصبة. إن كلمة "دلالة" في الاصطلاح اللغوي العام هي مصدر فعل "دل"" بمعنى "عين" و ""أشار" و أما الدلالة في الاصطلاح البياني فقد وجهها الجاحظ وجهة أخص مشيرا بها إلى العلامة التي بدونها لا يكون لحاجات الفكرة المستترة وجود ظاهر محسوس فالدلالة بالنسبة للمعنى: هي إذا الإشارة الظاهرة التي بواسطتها يمكن تعيينه و تجسيده و قد تترادف عند الجاحظ كلمتا: الدلالة و الإشارة من هذه الناحية كما في قوله: "و كلما كانت الدلالة أوضح و أفصح و كانت الإشارة أبين و أنور، و كان أنفع و أنجع([10]). أما "دلالات" جمع "دلالة"" فإنها تعني عند الجاحظ مختلف أنواع الإشارات المستخدمة لإبراز مضمون الفكر، أي مختلف الوسائل التعبيرية الممكنة" و جميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ و غير خمسة أشياء لا تنقص و لا تزيد، أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط ثم الحال التي تسمى نصبة"([11]). 1- اللفظ: و هو إحدى الدلالات الخمس على المعاني، ميزة الإنسان و خاصته الأساسية التي بها يتحدد نوعيا و هي قدرته على الكلام و الإبانة عن نفسه بالألفاظ. و يعتبر الجاحظ البيان باللفظ كالبصر، في حين أن من يعييهم الكلام عمي لا يبصرون "البيان بصر و العمي عمى" و في قول آخر نراه يقرن البيان بالعلم، فتارة يعتبر "البيان من نتاج العلم" و قد يعتبره ترجمان العلم و حياته و عماده. كما أن الجاحظ يجعل له الصدارة في الترتيب في حديثه عن الدلالات على المعاني. 2- الخط أو التدوين: و يعني به كتابة الكلام و تدوينه، و قد جعله في الترتيب تاليا للحفظ مباشرة. و من فضائله عدا ما اختص به القران الكريم من ذكر و تعظيم، أن العلم هو أحد اللسانين على أن "القلم أبقى أثرا، و اللسان أكثر هذرا"([12]). و من فضائله كذلك قدرة الإنسان على تصحيح كلامه و تنقيح لفظه في حين لا يستطيع شيئا من هذا مع وسيلة اللفظ "فاستعمال القلم أجدر أن يخص الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام"([13]) . و في حين أن "اللسان مقصور على القريب الحاضر"فان" القلم مطلق في الشاهد و الغائب"([14]). و في حين أن اللفظ لا يتعدى نطاقا محدودا جدا من المكان و الزمان فان الخط يتجاوز هذا الحيز إلى مكان و زمان: "و الكتاب يقرا بكل مكان، و يدرس في كل زمان، و اللسان لا يعدو سامعه، و لا يتجاوزه إلى غيره"". وهذا و للجاحظ في وصف الكتابة و الكتب أقوال مأثورة، و أوصاف هي من الدقة و الرهافة و حسن البيان ما يجعله في طليعة الذين كتبوا في هذا الغرض. 3- الإشارة: وهي عند الجاحظ، في الاصطلاح البياني "إحدى الدلالات الخمس على المعاني"([15]). و قد كان لهذه الصفة عنده و عند غيره من البلاغيين اللاحقين معنى آخر يدخل في نطاق الجمالية الأدبية و بلاغة الإيحاء بالكلام الموجز. وكون الإشارة لغة من لغات البيان فان أداتها من أعضاء الجسم: كالحواجب و الأجفان و الشفاه و الأعناق و الأيدي و قسمات الوجه و غير ذلك مما يعبر بالحركة عن حاجة النفس و مكنوناتها إلا أن أثرها لا يتجاوز حدود عين النظر، فهي مع اللفظ دون مرتبة البيان بالخط وفوق مرتبة ""العقد" كما سنرى وهي على ذلك كله ملازمة للبيان باللسان و متممة له لا سيما "الإشارة باليد، و مكثفة لأبعاده، و كاشفة لما لا يستطيع اللفظ أن يبوح بسره في حال من الأحوال"([16]). وقد نال مفهوم ""الإشارة: خطوة من اهتمام البلاغيين القدماء كابي هلال العسكري حيث عرفه في كتابه ""الصناعتان" بقوله: "الإشارة أن يكون اللفظ القليل مشارا به إلى معان كثيرة بالإيماء إليها، و لمحة تدل عليها"([17]). 4- العقد: و هو البيان بالحساب. و قد ألم الجاحظ إلماما عابرا بهذه الوسيلة البيانية مذكرا بمنافعها بشكل إجمالي من غير تحديد أو تفصيل، منوها بقيمة الحساب و فضله، مشيرا إلى الخسارة الفادحة التي يمنى بها فاقد الـقـــدرة عليه "من جهل بعدد السنين و بمنازل القمر و حالات المــــــــد و الجزر"([18]). و جل ما تستطيع إدراكه من كلام الجاحظ أن العقد ""هو الحساب دون اللفظ و الخط"([19]). و أن منافعه كمنافع اللفظ و الخط " و أن في عدم اللفظ، و فساد الخط و الجهل بالعقد، فساد جل النعم، و فقدان جمهور المنافع… "([20]). و مع ذلك يبقى مفهوم البيان بالعقد، علامة استفهام لا يجاب عنها بالأكثر مما أورده الجاحظ نفسه في هذا الغرض. 5- النصبة أو الحال: و في تعريف "النصبة" يقول الجاحظ في ""البيان والتبيين""* و أما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، و المشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السماوات و الأرض و في كل صامت و ناطق، و جامد و نام، و مقيم وظاعن و زائد و ناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة، و العجماء معربة من جهة البرهان"([21]). و من هنا فان "النصبة" هي ما توحي به الأشياء لعقل الناظر و ذهن المتبصر. و من حق هذه "الحال" أن يكون المرجع فيها تدبيرا عقليا ذاتيا، لا صفة موضوعية في الأشياء نفسها، ولعل هذا ما قصده صاحب المقولة: "سل الأرض فقل: من شق أنهارك و غرس أشجارك وجني ثمارك، فان لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا"([22]). و الاعتبار- كما لا يخفى- من استنتاج العقل وقدرته على الاستحياء و الإدراك، وهكذا تصبح "النصبة" أو الحال "وسيلة العقل إلى الاستبانة و الاستيضاح، و مما تجدر الإشارة إليه أن "النصبة" كمصطلح بياني لم تستقر على هذا المدلول إلا في كتاب البيان و التبيين، و أما في التصانيف السابقة، ككتاب "الحيوان" فإن المصطلح لم يكن قد تكون بعد، و إن يكن مفهومه محددا بكل دقة و معناه واضحا أتم الوضوح. الدلالة بعد الجاحظ: اهتم ابن جني (ت 392هـ) بدراسة العلاقة بين الألفاظ و المعاني و بيان المناسبة بينهما و كان التركيز الأول عنده على القيم الصوتية و الصرفية و دلالتها، فقال في الخصائص في باب إحساس الألفاظ أشباه المعاني: "هذا موضع شريف لطيف، و قد نبه إليه الخليل و سيبويه، و تلقته الجماعة بالقبول له و الاعتراف بصحته، قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة و مدا فقالوا: صر، و توهموا في صوت البازي طيعا فقالوا: صرصر. و قال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان، أنها تأتي لاضطراب و الحركة، نحو: النقران و الغليان و الغثيان فقابـلوا بتوالي حركات الأمثال توالي حركات الأفعال". وقد شرح ابن سينا(427هـ) العملية الدلالية اللغوية و دورها في عملية الاتصال على نحو يثير الفضول العلمي المعاصر اليوم، ذلك انه وقف على دقائق الأبعاد النفسية للدلالة اللغوية اعتمادا على درايته بعلم النفس و براعته في التحليل العقلي المقترن بالنزعة التشريحية، فكان اللغوي و الفيلسوف و الطبيب. يقول ابن سينا في كتابه "العبارة ص 04": "و معنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال المسموع ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه. وهذا الإمام أبو حامد الغزالي(ت505هـ) في كتابه (معيار العلم ص35) يفرد بحثا كاملا في هذا المجال لبيان رتبة الألفاظ في مراتب الوجود، فيقول: "اعلم أن المراتب فيما مقصده أربع، و اللفظ في المرتبة الثالثة. 1- فإن للشيء وجودا في الأعيان. 2- ثم في الأذهان. 3- ثم في الألفاظ. 4- ثم في الكتابة. فالكتابة دالة على اللفظ، و اللفظ دال على المعنى الذي في النفس هو مثال موجود في الأعيان". وهذا عبد القاهر الجرجاني(ت 471هـ) إمام الدلاليين العرب يقول في ( دلائل الإعجاز ص 45): "ليس على الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظه في النطق، بل أن تناسقت دلالتها و تلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل". ونختم بابن خلدون (ت808هـ) الذي يولي أهمية كبيرة للدرس اللغوي الدلالي بصورة مستقلة عن باقي العلوم الأخرى، يقول في مجال التعلم: "وهو معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية… فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك دلالة الكتابة المرصوفة على الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق" ( المقدمة ص 504). مقال للأستاذ حميد قبايلي، جامعة منتوري قسنطينة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ الهوامش (1) ابن منظور: لسان العرب. دار الكتب العلمية، بيروت ،لبنان ط 1، 2003، 11/98. (2) الزمخشري: أساس البلاغة. تحقيق عبد الرحيم محمود .دار المعرفة للطباعة و النشر، بيروت لبنان، ص 134. (3) أحمد مختار عمر: علم الدلالة. عالم الكتب، القاهرة، مصر، ط 1، 1985، ص 11. * أبو عثمان عمرو بن بحر، ولد نحو 160 هـ، في مدينة البصرة، و فيها نشأ، و أخذ العلم عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي، و أبي زيد الأنصاري، و أخذ النحو عن الأخفش، و علم الكلام عن أبي إسحاق إبراهيم النظام كان عالما موسوعيا، عظيم الذكاء، قوي الملاحظة واسع التفكير، بارعا في كثير من علوم اللغة و الأدب، و العلوم الطبيعية و العقلية، اتخذ الجاحظ علوم البلاغة أساسا للنقد و تبيان مراتب الكلام. فلج في أواخر عمره و توفي عام 255 هـ. من أشهر مؤلفاته: البيان و التبيين، البخلاء، الحيوان… (4) ابن منظور. لسان العرب:13/67. (5) احمد الهاشمي: جواهر البلاغة، ص 244-245. (6) ابن كثير: تفسير ابن كثير، 7/170. (7) الجاحظ: البيان و التبيين، تحقيق و شرح عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، لبنان/ (د-ت) 1/75،76. (Cool الجاحظ: البيان و التبيين. 1/45. (9) المصدر نفسه، 1/75. (10) الجاحظ: البيان و التبيين: 1/75. (11) ا المصدر نفسه 1/76. (12) المصدر نفسه 1/79. (13) الجاحظ: البيان و التبيين: 1/80. (14) المصدر نفسه: 1/80. (15) ا المصدر نفسه: 1/79. (16) المصدر نفسه: 1/41. (17) العسكري: الصناعتان، ص 348. (18) الجاحظ: الحيوان، ص 38-39. (19) الجاحظ: البيان و التبيين 1/80. (20) المصدر نفسه 1/79. (21) المصدر نفس 1/81. (22) المصدر نفسه 1/81. |
|
|
|
|
|
|
|
ادارة المنتدى غير مسؤوله عن التعامل بين اﻻعضاء وجميع الردود والمواضيع تعبر عن رأي صاحبها فقط |
|
|