|
التميز خلال 24 ساعة | |||
العضو الأكثر نشاطاً هذا اليوم | الموضوع النشط هذا اليوم | المشرف المميزلهذا اليوم | |
قريبا |
بقلم : |
قريبا |
|
|
|
|
|
|
#1
|
|||||||
|
|||||||
تلاميذ المدرسة الاسلامية الاولى
مع تلاميذ المدرسة الإسلامية الأولى بقلم : محب الدين الخطيب ولا أعني بالمدرسة الإسلامية الأولى (غار حراء)، فتلك مدرسة كان يغشاها إنسان فريد، وكان طالب حق ناءت الإنسانية بأباطيلها وأنانياتها عن أن تدركه فتدرك به السعادة المنشودة من أقدم العصور إلى الآن، ولعلها تثوب يوماً إلى رشدها فتلبي دعوة الله التي أنار بها قلبه، وملأ بها نفسه، وأجراها على لسانه ؛ حتى إذا انضوت تحت لو ائه جادة صادقة مخلصة، عاملة دائبة، حقق الله لبني الإنسان الصورة المثالية للحياة الطيبة، فتتم لهم بعدها حياة الخلود. ولا أعني بها (دار الأرقم بن أبي الأرقم) التي يقوم في مكانها الآن ـ على مقربة من الصفا ـ بيت الشيبيين من سلالة عبد الدار بن قصي الذين يحملون مفتاح الكعبة من ستة عشر قرناً إلى الآن - فتلك مدرسة قضت الظروف قبل الهجرة باستخفاء تلاميذها، وبتلقيهم دروس الحق همساً، ولعلي أخصها بصفحة يستبين منها القارئ كيف كتب الله لتلاميذها الغلبة والظهور. أما المدرسة التي يدور عليها حديث اليوم فهي البقعة التي لا تزال في المسجد النبوي الشريف ، بين منزل أم المؤمنين عائشة الذي تشرّف بالقبر المحمدي الطاهر ، وبين موضع منبره صلى الله عليه وسلم في جنوب ذلك البيت، ففي هذه البقعة تولى "معلم الناس الخير " إعداد الرجال الأولين الذين أحدثوا أعظم انقلاب في الأرض ، وأبقاه وأنفعه وأسماه. وقد كنت قرأت في رسالة (الإكليل) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص31) عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي (تلميذ أميري المؤمنين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأضرابهما من علماء الصحابة كعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب) وقد صار فيما بعد أستاذاً لشيوخ أئمة الإسلام ، كعاصم بن أبي النجود ، وعطاء بن السائب ، وأبي إسحاق السبيعي ، وعامر الشعبي ، والحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب ، وعشرات غيرهم من عظماء السلف، قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ( عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ) أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من "العلم" و"العمل" قالوا ـ أي الصحابة ـ : فتعلمنا القرآن والعلم. ثم رأيت مثل هذا النص في ترجمة أبي عبد الرحمن السلمي من طبقات القراء لابن الجزري (1 : 413) وزاد فيه : وأنه سيرث القرآن بعدنا قوم لايجاوز تراقيهم، بل لا يجاوز ها هنا (ووضع يده على حلقومه). هذا أقدم نص تاريخي عرفنا به الطريقة التي كان يتعلم بها الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا لا يعنون بالإكثار من العلم، ولكنهم يحرصون على إتقان ما يتعلمونه منه ،ثم على العمل به. وأنا أفهم من ذلك أن الصحابي الذي ظهرت منه العجائب عندما قذف به الإسلام إلى أقطار المشرق والمغرب كان يتلقى من القرآن عشر آيات بعد عشر آيات، فكان لا ينتقل من العشر إلى العشر إلا بعد حفظ هذه الآيات القليلة بإتقان، ثم يتدبر ما فيهن من آداب وأحكام وتوجيهات وأهداف، ثم يمرّن نفسه وجوارحه على "العمل" بذلك، حتى يصبح خُلقاً له وعادة وسجية. فإذا قرأ في سورة (العصر) آية "التواصي بالحق" وطّن نفسه على أن يكون من أهل الحق، سواء كان الحق في جانب المصلحة والمنفعة له ولمن يحبهم ، أم على خلاف ذلك، وأخذ يوصي بذلك ذويه وأحبابه والذين يستنصحونه، ويتقبل الوصية به منهم ومن غيرهم بالبشاشة والابتهاج والسرور، ويمضي في مسالك الأرض مقيماً للحق ، ناصراً له ، داعياً إليه بقلبه ولسانه وعمله. وكان لهذا الضرب من العلم الذي يعملون به قيمة عالية عندهم، ويرون أنه هو العلم النافع المطلوب، ويدعون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" فكل معرفة لها أثر نافع في تهذيب النفس، وفي الحياة الصالحة، وفي تقوى الله، والبعد عن الشر وأهله، والدعوة إلى تعميم الخير ومناصرة أوليائه، وفي إقامة الحق وبسط سلطانه في الأرض، يقبلون عليها ، ويمرنون أنفسهم وجوارحهم على العمل بها. ولا يشغلون مداركهم وعقولهم بلغو القول، ولا بالفلسفة التي لا طائل تحتها فيما وراء الطبيعة، وما استأثر الله بعلمه من غيبه، مكتفين من ذلك بما ورد به النص ، لا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، ويتعلمون العبادات بالقدوة، ويزينوها بالخشوع، ويجودون بالمال والنفس والولد في سبيل الحق والخير ، يقيمونها في الأرض بالاعتدال والرفق إذا تواصلوا إليهما بهما، ويقمعون الباطل والشر بالقوة والقسوة إذا لم يقمعا إلا بهما. وكان الصحابة يختلفون إلى هذه المدرسة ، فيصيبون منها علماً وهدى وفضائل وسجايا وآداباً وأحكاماً، ما اتسعت لذلك أوقاتهم ، وساعدت عليه ظروفهم. قال عمر بن الخطاب : كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ـ وهي من عوالي المدينة ـ فكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بعلم ذلك اليوم، وإذا نزل فعل مثل ذلك. فكان بعضهم أكثر ملازمة لهذه المدرسة وإحاطة بما يقال فيها ، كما كان بعضهم أعمق فهماً لما تريده هذه المدرسة، وأوسع إدراكاً لما ترمي إليه من أهداف. هذا عبد الله بن مسعود (المتوفى سنة 32) لا شك أنه من كبار علماء الصحابة وقرائهم وفقهائهم، لأنه سادس ستة في الإسلام، ولأنه كان ألزم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلبسه نعليه، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام ، فاستطاع ابن مسعود أن يلم بمجموع ما أصابه الصحابة ـ متفرقين ـ من هداية وتوجيه وتثقيف، وقد قال عقبة بن عمرو البدري (المتوفى سنة 40) في مجلس شهده الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري (21 ق.هـ ـ 44) : ما أرى أحداً أعلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود, فوافقه أبو موسى على ذلك ، وقال: إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل. وقال أبو موسى مرة: لقد قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان أبو موسى يقول : لمجلس كنت أجالس فيه عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة ، فعبد الله بن مسعود هذا ـ وهو ما سمعت عن علمه وفقهه وطول ملازمته الهادي الأعظم ـ كان يقول في عمر بن الخطاب (40 ق.هـ ـ 23) : "لو أن علم عمر وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر". ولأجل ذلك كان ابن مسعود أيضاً يقول: "لو سلك الناس وادياً وشعباً ، وسلك عمر وادياً وشعباً ، لسلكت وادي عمر وشعبه". ولا شك أن ابن مسعود أخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك" ومن قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". وما ذلك إلا لأن علم عمر الذي تلقاه من (معلم الناس الخير) كان علماً عظيم الشمول، بعيد الأهداف، يقاس عليه غيره ، ولا يقاس على غيره، ولأن عمر إنما يحاول إدراك المبادئ التي تتفرع عنها الأحكام، والقواعد التي تبنى عليها السنن والآداب. ومع ما لعمر من ملكة فطرية في إدراك الحق لاحرازه مقاييسه، كان يستعين في خلافته بعلم العلماء من الصحابة ، أمثال عبد الله بن مسعود ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وعبد الله بن عباس، وقال عمر في معاذ "لولا معاذ لهلك عمر" وكان يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن.[1] وكانت التربية العملية في هذه المدرسة لها المقام الأول من العناية؛ لأنها نتيجة العلم وثمرته، والعلم بلا تربية شر يستعاذ بالله منه ، وكل ما نحن فيه اليوم من شرور بعض نتائج العلم المجرد من التربية . إن أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية العملية كانت المثل الأعلى في تكوين الإنسانية بأسمى صفاتها، وكتب السنة حافلة بنصوصها الصحيحة ، غضة كأن حروفها تسمع من صوت الهادي الأعظم صلوات الله عليه، وويل لأمة تسمع نداء هاديها يدعوها إلى سلوكِ فج فتتحول عنه لتسلك فجاً غيره. واقرأ إن شئت في صحيحي البخاري ومسلم قصة الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك مروية بلسان أحدهم ـ كعب بن مالك السلمي ـ فهي نموذج للتربية المحمدية في تكوين الرجال حتى خرج منهم أولئك الذين تم على أيديهم أعظم انقلاب في تاريخ المجتمع البشري. عنايته بتربية النساء : ورأى نساء الصحابة ما يصيب أبناؤهن وإخوانهن وأزواجهن من علم وخلق وتهذيب بالتزامهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعثن إليه من قالت: يا رسول الله ، غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك , فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن. وكان مما أمرهن به الصدقة والمساهمة العملية في إقامة الحق وتعميم الخير، فكان من علامة إيمانهن بما سمعن، وعملهن بما تعلمن، أن كانت الواحدة منهن تنتزع القرط من أذنها فتلقيه صدقة لله، والأخرى تخرج الخاتم من إصبعها فتلقيه، وبلال يأخذ ما يلقين في طرف ثوبه . خلفاء المدرسة الأولى : وهكذا أصبح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ رجالاً ونساء ـ كالنجوم تهتدي الدنيا بنورها ؛ لأن ملازمتهم لتلك البقعة من مسجد الرسول جعلتهم خير أمة أخرجت للناس ، فلما نشأ الجيل الثاني في الإسلام كان الموفقون للخير من شبابه يتلقفون هذه الهداية من ألسنة الصحابة بالرواية والعلم ، ويقتبسونها من أخلاقهم بالقدوة والاتباع. واتسعت المدرسة الأولى فتفرعت عنها حلقات لعلماء الصحابة في كل بقعة وصل إليها الإسلام. أما الخلفاء الأولون وولاتهم فقد تعلموا من المدرسة الأولى أن الولاية (تكليف وعبء) وليست حقاً أو متعة، فكانوا يقومون بها باللقمة، وكانوا يعلمون أن المال الذي تحت أيديهم أمانة الله يجب أن توضع في مواضعها على أحكام الله وسنن الإسلام. ولما طعن عمر اقترح عليه أصحابه أن يعهد إلى ابنه عبد الله، وأن عبد الله بن عمر أهل لذلك بعلمه وأمانته وبعد نظره وإحاطته بأهداف الرسالة وبقناعته وتقواه، فأبى عليهم عمر. ولما نال عثمان سعادة الشهادة عرضت الولاية على عبد الله بن عمرو وعلى عليّ والزبير وطلحة فكانوا جميعاً يتهربون منها ، ويحيلها كل منهم على صاحبه ، والذين تولوا هذا المقام الأعظم كانت الدولة كلها في نظرهم حلقة وعظ ومدرسة تهذيب، يتولون فيها تربية الأمة ، وحملها على الطريق واضحة. وكان علماء الصحابة أعواناً للخلفاء على تكوين الأمة الصالحة ، فكان من حول كل واحد منهم تلاميذ من شباب التابعين يعدّهم لقيادة الأمة، وحمل أعباء الدولة، وأداء أمانة الإسلام للجيل الذي يخلقهم ، وأضرب المثل باثنين من الصحابة العلماء؛ لأن المقام لا يتسع للاستقصاء. كان من تلاميذ معاذ بن جبل (20 ق.هـ ـ 18) مالك بن يخامر السكسكي (المتوفى سنة 70) وقد عاش ما عاش ناقلاً من روح معاذ إلى روحه، ومن قلب معاذ إلى قلبه، ومن عقل معاذ وإيمانه إلى عقله وإيمانه ، فلما حضرت معاذ الوفاة بكى، فقال له معاذ: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أستفيدهما منك. فأجابه معاذ وهو يجود بروحه: إن العلم والإيمان مكانهما ، من ابتغاهما وجدهما. ومن تلاميذ معاذ أيضاً عمرو بن ميمون الأودي (المتوفى سنة 74) وهو من شيوخ الشعبي ، وسعيد بن جبير وأضرابهما ، وأبو مسلم عبد الله بن ثوب الخولاني (المتوفى بالشام سنة 62) وهو من شيوخ جبير بن نفير ومكحول وأمثالهما، ومسروق بن الأجدع الهمداني (المتوفى سنة 63) وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي (المتوفى في خلافة عمر بن عبد العزيز) وعشرات غيرهم. أما عمرو بن ميمون فكان أهم ما طلبه من معاذ في مرض موته أن يتخير له ينبوعاً آخر من ينابيع الحق والخير، فأوصاه بأن يلحق بابن مسعود ، ويطلب العلم عنده ففعل. ولا تتسع هذه الصحيفة للكلام على عبد الله بن مسعود وحلقته ومدرسته، ولا للكلام على إخوانه من علماء الصحابة واحداً واحداً، فتقتصر على الإشارة إلى حلقة حبر الأمة وأصغر علماء الصحابة سناً عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، فقد كان من تلاميذه طاوس بن كيسان الجندي (المتوفى سنة 106) وهو من شيوخ إمام المفسرين للقرآن ، مجاهد بن جبر وعمرو بن شعيب حفيد عمرو بن العاص والزهري وعمرو بن دينار وتلك الطبقة. ومن تلاميذ ابن عباس سعيد بن جبير، وعكرمة، وابن المسيب، وأبو العالية، وعطاء بن يسار، وأبو الشعثاء. وعن هؤلاء انتشر العلم، وبهم عرفت الشريعة، وعلى فقههم قامت الدولة. روى البغوي في معجمه عن عطاء قال: ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس ، وأكثر فقهاً وأعظم خشية ، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده : يصدرهم كلهم من واد واسع. وروى ابن سعد قول طاوس: رأيت سبعين من أصحاب رسول الله إذا تدارءوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس ، وقال ابن جبير: كنت أسمع الحديث من ابن عباس ، فلو يأذن لي لقبّلت رأسه (أي من حلاوة كلامه) وروى الزبير بن بكار أن ابن عباس كان يغشى الناس في رمضان وهو أمير البصرة فما ينقضي الشهر حتى يفقههم. وكما سنّ الخلفاء لشعوب المسلمين أن الولاية (تكليف) وليست (متعة) فكانوا لا يتناولون عليها أجراً إلا لقمتهم وكسوتهم بالمعروف، فإن هؤلاء المعلمين الهداة من أئمة الإسلام كانوا يرون العلم وتعليمه (عبادة) لا يتناول الأجر عليها إلا خسيس ، وحتى الذين يقبلون الهدية لأن قبولها من سنة الإسلام لم يكونوا يقبلونها من تلاميذهم لئلا يكون فيها معنى الأجر على العلم. قال عطاء بن السائب : كان رجل يقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي (الذي تقدم أنه من تلاميذ عثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب) فأهدى له تلميذه فرساً، فردّها وقال: ألا كان هذا قبل القراءة؟! لأن الهدية قبل القراءة تكون لله، أما بعد القراءة ففيها معنى الأجر، والأجر على العلم ـ ولاسيما القرآن ـ كانوا يتعففون عنه كتعفف الخلفاء على أموال بيت المال التي تحت أيديهم، فضلاً عن أموال الأمة التي كانت أمانة الله تحت سلطانهم. عنايتهم باكتشاف المواهب والتشجيع على الفضائل : وكان المتخرجون في هذه المدرسة يتعهدون الشباب بالتثقيف والمراقبة والتنويه بفضل أهل الفضل منهم، روى الزهري أن المهاجرين قالوا لعمر بن الخطاب:ـ ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ قال: ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول. وحتى الحطيئة الشاعر غشي مجلس عمر فنظر إلى فتى بذ الحاضرين بكلامه فقال: ـ من هذا الذي نزل على القوم بسنه، وعلاهم في قوله؟ قالوا: ـ هذا ابن عباس. فأنشأ يقول: إني وجدتُ بيانَ القولِ نافلةً * يهدى له ووجدتُ العيَّ كالصممِ المرءُ يَبلى وتبقى الكَلِمُ سائرةً * وقـد يُـلام الفتى يـوماً ولـم يـلمِ ومرّ سعيد بن المسيب (13 - 94) بعبد الله بن عمر بن الخطاب (10 ق.هـ - 73) فسلم عليه ومضى، فالتفت ابن عمر إلى أصحابه وقال: ـ لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشاب لسرّه. وكان سفيان ابن عيينة (107 ـ 198) إذا جاء شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي (150 ـ 204) فقال: ـ سلوا هذا الغلام . ونقل القاضي ابن خلكان عن عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي (المتوفى سنة 219) قال: سمعت الزنجي بن خالد المكي (من قضاة صدر دولة بني العباس) يقول للشافعي وهو لا يزال ابن خمس عشرة سنة: أفتِ يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي ومرض أبو يوسف (113 ـ 182) في صدر حياته مرضاً خيف عليه منه، قال محمد بن الحسن (131 ـ 189) : فعاده أبو حنيفة (80 ـ 150) ونحن معه ، فلما خرج من عنده وضع يده على عتبة بابه وقال: إن يمت هذا الفتى، فإنه أعلم من عليها (وأومأ إلى الأرض) . وإنما كانوا يفعلون ذلك لأن العلم الذي كانوا يحملونه، والأخلاق التي كانوا يتوارثونها، ووصايا السلف التي كان كل جيل يؤديها إلى من خلفه إنما كان ذلك كله من أمانات الملة ، وميراث الرسالة ، فكانوا يتحرّون الأكفاء لحمله، فإذا أصابوا الكفء لهذه الأمانة كانوا أحرص عليه من حرصهم على المال والولد. أدبهم مع شيوخهم : وكما كان الشيوخ يقدرون الأكفاء ممن سيحملون عنهم أمانات الله، كان التلاميذ ينظرون إلى شيوخهم كما كان الصالحون في الأمم الخالية ينظرون إلى أنبيائهم، لموضع الأمانة من نفوس هؤلاء وهؤلاء. عَلِمَ سفيان الثوري (97 ـ 161) بأن عالم أهل الشام الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (88 ـ 157) قادم إلى مكة فخرج منها سفيان يستقبل ضيفها الأوزاعي حتى لقيه بذي طوى ، فحل رأس بعير الإمام من القطار ، ووضعه على رقبته، فكان إذا مرّ بجماعة يشغلون الطريق قال: الطريق للشيخ! وقال أبو حنيفة (80 ـ 150): ما صليت منذ مات حماد بن مسلم الأشعري (وهو شيخه وكانت وفاته سنة 120) إلا استغفرت له مع والدي، وما مددت رجلي نحو داره ، وإن بيني وبينها سبع سكك، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه أو علمني. وتلقى الإمام أحمد بن حنبل (164 ـ 241) بعض أمانات الإسلام وسننه عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي مدة إقامته عندهم في العراق، فلما اختار الشافعي الإقامة في مصر جعل الإمام أحمد يقول: ما بتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستفغر له. وقال: ستة أدعو لهم سحراً، أحدهم الشافعي. وقال له ابنه عبد الله: أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض؟ كانت حلقاتهم مجامع علمية : وكان لكبار العلماء حلقات من أصحابهم وتلاميذهم ينبغ كل واحد منهم في ناحية من نواحي العلم قد يبذ بها أستاذه، ويرى - مع ذلك - أن من أدب العلم أن يجعل علمه بين يدي أستاذه، كما أن من أدب البنوّة للأبوّة أن يجعل الابن ماله بين يدي أبيه عملاً بالسنة الإسلامية "أنت ومالك لأبيك". قال ابن كرامة: كنا عند وكيع بن الجراح الرؤاسي (المتوفى سنة 196) فقال رجل: أخطأ أبو حنيفة...فقال وكيع: كيف يقدر أبو حنيفة يخطئ وعنده مثل أبي يوسف وزفر في قياسهما، ومثل يحيى بن أبي زائدة وحفص بن غياث وحبان بن مندل في حفظهم الحديث، والقاسم بن معن في معرفته باللغة العربية، وداود الطائي وفضيل بن عياض في زهدهما وورعهما؟ من كان هؤلاء جلساءه لم يكد يخطئ؛ لأنه إن أخطأ ردّوه. ومثل هذه الحلقات - التي استغنى عنها علماء زماننا بالمقاهي والأندية - أفضل وأغزر انتاجاً ، وأعلى في العلم مقاماً من كل ما نعرفه من مجامع العلم الرسمية التي يتزاحم أهلها عليها ابتغاء ثواب الدنيا. وقد استمرت هذه الحلقات إلى عصور متأخرة من تاريخ العلم والعلماء في الإسلام ، ويقال عن الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 ـ 852) في شرحه على صحيح البخاري الذي سماه (فتح الباري) إن أصحاب ابن حجر وتلاميذه كانوا كلما وصل في الشرح إلى حديث من الأحاديث استقصوا كل ما ورد فيه أو قيل في تفسيره ، ويتولى شيخهم ـ رحمهم الله ـ تمحيص ذلك واستيفاء الكلام عليه، فجاء (فتح الباري) دائرة معارف في علم السنة وأسرار الشريعة لا نظير لها، وصدق عليه قول الناس "لا هجرة بعد الفتح". شغفهم بالعلم وتوسعهم فيه : ومع إن "العمل" كان من شروط العلم عندهم فإن "العلم" لم تكن له عندهم حدود ، كان طالب العلم منهم يساهم في مختلف ألوان العلم على قدر ما يأنس في همته من قدرة، وفي مواهبه من كفاءة وطاقة ، وهل علم الذين يزورون قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، أو يتعبدون على مذهبه في الفقه أنه كان من أحذق قريش في الرماية، وكان يصيب من العشرة عشرة؟ وبرع في الشعر واللغة وأيام العرب، فنقل القاضي ابن خلكان أن الأصمعي (122 ـ 216) على جلالة قدره في هذه العلوم قرأ على الشافعي أشعار الهذليين. وذكروا أن أحد علماء الأنساب في العراق تحدث مع الشافعي في هذا العلم، فوجده من كبار العلماء فيه، فلما طال بينهما الحديث قال له الشافعي: مثلي ومثلك لا يليق بهما أن يتحدثا في أنساب الرجال من قبل آبائهم، فتعال نتحدث في أنسابهم من قبل أمهاتهم. ولقيه طلبة الطب في الفسطاط فوجدوا عنده من المعرفة في علومهم ما أطمعهم في أن يخصص لهم وقتاً يأخذون فيه عنه علوم الطب، فأشار إلى الفقهاء واقفين ينتظرونه في ظل الجدار من جامع عمرو بن العاص فقال: وهل ترك لي هؤلاء من الوقت ما أتفرغ به لكم؟ وقال الربيع بن سليمان المرادي (174 ـ 270) وهو راوي كتب الشافعي ، ومن أخص أصحابه ، وأول من أملى الحديث بجامع ابن طولون: لما قدم الشافعي الفسطاط كان يجالسه أرباب الحلق ـ عبد الله بن الحكم ونظراؤه ـ وكان حسن الوجه والخلق، فحبب إلى أهل مصر من الفقهاء والنبلاء والأعيان. وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح بجامع عمرو فيجيئه أهل القرآن فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره، فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو حتى يقرب انتصاف النهار، ثم ينصرف إلى منزله في الفسطاط. وقال الربيع : أقام الشافعي ها هنا في الفسطاط أربع سنين، فأملى ألفاً وخمسين ورقة، وخرج كتاب الأم ألفي ورقة، وكتاب السنن وأشياء كثيرة كلها في أربع سنين ، وكان ـ مع ذلك ـ عليلاً شديد العلة، وربما خرج الدم وهو راكب حتى يملأ سراويله وخفه (يعني من البواسير). قال اسماعيل بن يحيى المزني (175 ـ 264) قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ قال : أسمع بالحرف مما لم أسمعه، فتودّ أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم به مثلما تنعمت أذناي. قيل له: فكيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال ، قيل له: فكيف طلبه؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. وقال الربيع: سمعت الشافعي وهو مريض ـ وذكر ما جمع من الكتب ـ فقال: وددت لو أن الخلق تعلموه ولا ينسب إليّ منه شيء ،وقال حرملة : سمعت الشافعي يقول: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس ، أؤجر عليه ولا يحمدونني. وبعد فإن المدرسة الإسلامية الأولى كوّنت أصنافاً ثلاثة من الناس: جمهوراً يقيم الحق، ويحب الخير، ويستحي من الله، ويتعامل فيما بينه بالمروءة والتواسي والإيثار. وعلماء يطلبون المعرفة في كل ما ينفع، ويعملون بها، ويستعيذون بالله من علم لا ينفع، ويضنون بأوقاتهم عليه، ويرون أن ما يحملونه من أمانات الله ـ والأمانات لا تباع بالدراهم ـ فيتعبدون بأدائها إلى من يخلفهم من أهل الكفاية والفلاح . وحكاماً يرون الولاية عبئاً يحمله حامله لخير الدولة، واستقامة الدعوة، فلا يبتغون على ذلك أجراً إلا الكفاف ، ويعملون في الوظائف والمناصب يقاعدة "طالب العلم لا يولى" فكانت الحال في دولتهم أن الوظائف تنشد الموظفين، ولا ينشد الموظفون الوظائف. ولقلة التزاحم على الوظائف، وأمانة القائمين عليها، قلل عدد الوظائف وأهلها ؛ فخف عبء الميزانية على الأمة، وكان الأمن أعم مما هو عليه اليوم، والعدل أظهر مما هو اليوم، ومصالح الناس مقضية بأسرع مما تقضى به اليوم. لقد كانت تعاليم هذه المدرسة معمولاً بها في الأجيال الثلاثة الأولى التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه (ك 62 ب1 ) من حديث عمران بن حصين : "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ، ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون". قال الحافظ ابن حجر في تفسير هذا الحديث من فتح الباري (ج7 ص4) اتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين (أي ثالث الأجيال الثلاثة) من عاش إلى حدود 220، ثم ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً. أيها المسلمون إن آداب مدرستكم الأولى وتربيتها وسننها معطلة منذ أحد عشر قرناً ، فهل ينبري لتجديد هذه الدعوة وإحياء آداب هذه المدرسة وتربيتها شباب يخضرّ بهم عود الماضي، فينتفض بهم عن ذلك التراث تراب الأنقاض، فيظهر المعطل من سنة 220 إلى الآن؟ الجواب عند الذين يحبون أن يكونوا تلاميذ في المدرسة الإسلامية الأولى، خلفاً لمن سلف من أوليائها ، وأعتقد أنهم موجودون؛ لأن أمة محمد إلى خير . المصدر : مجلة الفتح نقلا عن موقع الفسطاط |
|
|
|
|
|
|
|
ادارة المنتدى غير مسؤوله عن التعامل بين اﻻعضاء وجميع الردود والمواضيع تعبر عن رأي صاحبها فقط |
|
|