قصة تدل على حرص العرب الشرفاء على الوفاء بالوعد مهما كانت صعوبته
توالت على مُضر الجدُبة و القَحْط سبع سنين، حتى كادوا يهلكون، فلما رأى حاجب بن زرارة (وهو سيد بني تميم، وقد ادرك الاسلام واسلم وتوفي سنة 3 للهجرة) الجهد والجدب على قومه جمع بني زُرارة فقال: إني قد أزمعتُ أن آتي الملك فأطلب إليه أن يأذن لقومنا فيكونوا تحت هذا البَحْر (1) حتى يحيوا، فتلكّأ بعضهم عليه، وقال بعضهم: رَشَدْتَ فافعل، غير أنّا نخاف عليك بكر بن وائل لِمَا كان بيننا وبينهم، ولا بدَّ لك من ورود مياههم،فقال: ما منهم وجهٌ من الناس ولا شريف إلاَّ ولي عنده يدٌ خضراء الا ابن الطويلة التيمي، وأنا أرجو أن أداريَه، ثم ارْتحَلَ.
فجعل لا يأتي على ماءٍ لبكرٍ إلا أكرمه سيدُهم،ونحر له وَقَرَاهُ، حتى نزل قُصْوَان (2) وعليه ابن الطويلة التيمي، فلمَّا أضاء الصُّبح ، وناديهم قريب من منزل حاجب الذي حلَّ فيه ، دعا حاجب بِنِطْع ، ثم امر فصُب عليه التمر ، ثم نادى : حيَّ على الغداء ، فنظر ابن الطويلة ، فإذا هو بحاجب فقال لأهل المجلس: أجيبوه فإنه سيدُ قومه ، فأتوه فأكلوا وأهدى اليه ابن الطويلة جزوراً وشِيَاهاً ، فنحر وأكل وأطعم.
ولما أراد حاجب أن يرتحل قال له ابن الطويلة: إني معك حتى تبلغ مأمنك ، فإني لا أدري ما يعرِض لك أمَامَك. فقال حاجب: ليس أمامي أحدٌ أخافُه عليّ.
وارتحل حاجب حتى اتى كسرى ، فلما شكى إليه الجَهد في أنفسهم وأموالهم ، وطلب أن يأذن لهم فيكونوا في حَدِّ بلاده حتى يعيشوا ويُحْيَوْا قال له: إنكم – معشر العرب – حُرصاء على الفساد فإن أذنتُ لهم أفسدوا البلاد وأغاروا على الرّعيّة وآذوهم. قال له حاجب: فإني ضامنٌ للملك ألاّ يفعلوا ، قال: ومَنْ لي أن تَفِيَ بما تقول؟ قال: لاأرْهَنُك قوسي بالوفاء بما ضَمِنْتُ لك.
ولما جاء حاجب بقوسه ضحك القوم الذين كانوا حول الملك لمّا رأوا قوسه ، وقالوا: بهذه العصا تَفي للملك بما ضمنتَ له. فقال لهم الملك: ما كان لِيُسْلِمها لشيء أبداً. و أمرهم فقبضوها ، وأذن للعرب في ان يدخلوا الرِّيْفَ(3).
ومكث بنو زرارة في الريف مدة ، ثم مات حاجب ، وبعدها زال القحط ، وخرج أصحابُ حابج الى بلادهم وارتحل عُطَارِد بن حاجب الى كسرى ليطلبَ قوس أبيه ، ولما دخل عليه وكلّمه في القوس قال له كسرى: ما أنت بالذي وضعتَها عندي. قال عطارد: أجل أيُها الملك! ما أنا بالذي وضعتُها. قال: فما فعل الذي وضعَها؟ قال: هَلَك ، وهو والدي ، وقد وَفَى لك أيها الملك بما ضمن لك عن قومه ، ووفى هو بما قال للملك ، قال كسرى: ردُّوا عليه قَوْسَه ، وكساه
(1) البحر: الريف.
(2) قصوان: موضع في ديار تيم الله بن ثعلبة.
(3) الريف: الارض فيها الزرع و الخصب.