الاعتذار ثقافة
الخَطَأُ سلوكٌ بشريٌّ، فإن لم يكن غريزةً وطبعاً في الإنسان، فهو تطبُّعٌ واكتسابٌ تفرضه الحياةُ والتربية والعلاقات الاجتماعية وطبائع النفس وحاجاتها وأطماعها، ولعل ذلك يفسر التشابه بين لفظي (الخَطَأ) و(الخَطْوِ)، في إشارةٍ إلى أن الخطأ نتيجةٌ طبيعيةً للحركة في الحياة. وقد قيل مصداقاً لذلك: (من يعمل يخطئ ومن لا يعمل لا يخطئ). وهو دليل على أننا أحياء نعيش ونتنفس، وإلاَّ فنحن أمواتٌ قد انقطع عملُنا خيرُه وشرُّه. وقد جاء قول نبيِّنا المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدمٍ خَطَّاءٍ، وخَيرُ الخَطَّائين التَّوَّابُون) والتوابون هم المعترفون بأخطائهم، النادمون على فعلها، المُقِرُّون بعدم العودة إليها وتكرارها، وليس في ذلك الاعتراف منقصةٌ في شرفٍ أو رجولةٍ أو جاهٍ ومكانةٍ وسلطان، بل هو على العكس من ذلك تماماً، شجاعةٌ وفضيلةٌ ورجوعٌ إلى الحق والعدل، ودليلٌ على عقلٍ راجحٍ، ونفسٍ سليمةٍ، وضميرٍ حيٍّ، ناهيك عن ما يترتَّب على ذلك من إصلاح ذات البين، وتطييب النفوس، وحسم الصراعات والخلافات، وإنهاء الضغائن والأحقاد بين الناس، وإعادة المياه إلى مجاريها. بل إن المنقصةَ وانعدامَ الفتوَّةِ والضعفَ يكمن في عدم الاعتذار، والاستمرار في ما ينبغي الاعتذار عنه من قول أو فعل.
ولا يكلِّف الاعتذار شيئاً أكثر مما يكلِّف الخطأ، لأنه كلمات تجري على اللسان، كلُّ ما في الأمر أنها كلماتٌ مستوفاةٌ للحقيقةِ، دقيقةٌ مُحدَّدةٌ مُعبِّرةٌ مُقنِعةٌ، تصدر عن قلبٍ صادقٍ، ونيَّةٍ خالصةٍ مُخلِصة، واقتناعٍ لا تُفسِده حِيلةٌ أو خداعٌ أو تردُّدٌ أو شَكٌّ، تلك الكلمات تصل إلى الطرف الآخر لتحقِّق القبولَ والرِّضى، ودليلُ صِدقِها وإخلاصها ما يصاحب لحظة الاعتذار من تعابير وجهٍ ونبراتِ صوت.
الاعتذار ثقافة، لذلك فهو لا يشيع إلاَّ في مجتمعٍ إنسانيٍّ راقٍ، ليدلَّ على رقيِّ إنسانه، وإلاَّ فهو مجتمعٌ متخلِّفٌ وحشيٌّ لا يقلُّ شأناً عن الغَابة والمُحيط، حيث يفترس كبيرُه صغيرَه، ويظلم قويُّه ضعيفَه، فلا ترى لدمعةٍ انحداراً، ولا لبكاءٍ نشيجاً.
وكم في التاريخ من مواقفَ اعتذر فيها العظماءُ ممن أساءوا إليهم أو ظلموهم، وقد سجَّلها التاريخُ في صفحاته الناصعة؛ لتقتدي بها الأجيالُ اللاحقة و تتعلَّم منها.
كنت أشاهد قبل أيَّامٍ لقاءً مباشراً مع الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم من قناة (التحرير) المصرية، وتطرَّق الحديث لموقف المملكة العربية السعودية الأخير الدَّاعم لثورة 30 يونيو المجيدة، فأكبرَ الشاعرُ نجمٌ موقفَ المملكة شاكراً لها ومُشيداً بها، وبادر بتقديم اعتذاره الشخصي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن مواقفه السلبية السابقة من المملكة، وأنه كان قد أخطأ وأساء الفهم؛ فلم يزد هذا الاعتذار الشاعرَ نجماً إلا رفعةً في النفوس ومحبَّةً في القلوب، وكان يكفيه أن يشكر ويشيد بموقف المملكة فقط، ولكنه اعتذر لأنه شاعرٌ رجلٌ إنسان، على أن اعتذاره كان لموقفٍ عبَّر عنه شعراً، أي أنه مجرَّد كلامٍ قاله، ولم يسفك دماً، أو ينهب عقاراً، أو يظلم أو يهمِّش شعباً، أو يستأثر بشيء على حساب ملك وشعب المملكة نفسها.
فما بال من أخطأ استكباراً وغروراً، ولم يعترف بأنه أخطأ، ولم يبادر بالاعتذار، ثم ماطل حين طُلِبَ منه أن يعتذر، وحين اعتذر لم يُسَمِّ الأشياءَ بأسمائها، ولم يحدِّد الأجزاءَ بتفاصيلها، وكأنه يريد أن يمرِّر الأمر، ظاناًّ أنه قد فعل ما عليه وانتهى، وأن ذلك سينطلي على الطرف الآخر الذي هو إنسانٌ حيٌّ يشعر بالألم، وبالظلم الواقع عليه، وليس أحجاراً وخُشُباً مُسنَّدة، فإن من أحسنَ الذَّبحَةَ ينبغي عليه أن يُحسِنَ الاعتذارَ عنها ويكونَ أهلَها. ولكن:
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حَياًّ
ولكنْ لا حياةَ لمَن تُنادي
علي أحمد بارجاء
نقلآ عن صحيفة الثورة اليمنية
|