12-28-2012, 05:13 AM
|
|
كتاب الايمان
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتاب الإيمان
باب بيان الإِيمان والإِسلام والإِحسان ووجوب الإِيمان بإِثبات قدَر الله سبحانه وتعالى. وبَيان الدليل على التّبَرّي ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ الْقُشَيْرِيّ رَحِمَهُ الله : بِعَوْنِ الله نَبْتَدِئُ، وَإِيّاهُ نَسْتَكْفِي، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلاّ بِالله جَلّ جَلاَلُهُ. أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا؟ وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه، وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة، قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله في كتابه معالم السنن: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالاَية يعني قوله سبحانه وتعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}.
قال الخطابي: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين، ورد الاَخر منهما على المتقدم، وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين. قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الاَيات واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها، وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر. وقال الخطابي أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان". وفيه إثبات التفاضل في الإيمان، وتباين المؤمنين في درجاته، هذا آخر كلام الخطابي.
وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله في حديث سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك، لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} و{رضيت لكم الإسلام دينا} {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل، هذا كلام البغوي.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي رحمه الله في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عنى به ذلك فلا يزيد ولا ينقص، لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص وهو مذهب أهل السنة، قال: فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بمواجب الإيمان هل يسمى مؤمنا مطلقا أم لا؟ والمختار عندنا أنه لا يسمى به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" لأنه لم يعمل بموجب الإيمان فيستحق هذا الإطلاق، هذا آخر كلام صاحب التحرير.
وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الاَيات يعني قوله عز وجل: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}. وقوله تعالى: {وزدناهم هدى}. وقوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى}. وقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى}. وقوله تعالى: {ويزداد الذين آمنوا إيمانا}. وقوله تعالى: {أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} وقوله تعالى: {فاخشوهم فزادهم إيمانا}. وقوله تعالى: {وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}. قال ابن بطال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص، قال: فإن قيل: الإيمان في اللغة التصديق، فالجواب: أن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان. وأما التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينقص، ولذلك توقف مالك رحمه الله في بعض الروايات عن القول بالنقصان، إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إذا نقص صار شكا وخرج عن اسم الإيمان. وقال بعضهم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة. قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريح وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك، فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحب اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمنا بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنا بالتصديق، فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى لقوله عز وجل: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا}. فأخبرنا سبحانه وتعالى أن المؤمن من كانت هذه صفته. وقال ابن بطال في باب من قال: الإيمان هو العمل، فإن قيل: قد قدمتم أن الإيمان هو التصديق، قيل: التصديق هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يسمى مؤمنا مطلقا،
|