المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي. - نادي النصر السعودي شبكة جماهير الوفاء
       
   

إضافة إهداء

   
التميز خلال 24 ساعة
 العضو الأكثر نشاطاً هذا اليوم   الموضوع النشط هذا اليوم   المشرف المميزلهذا اليوم 
قريبا

بقلم :
قريبا
       
العودة   نادي النصر السعودي شبكة جماهير الوفاء > منتديات علوم اللغة العربية > الـنـحـو والـصـرف
       
إضافة رد
       
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
       
#1  
قديم 01-16-2019, 03:29 AM
الصاعقه
عضو ملكي
الصاعقه غير متواجد حالياً
لوني المفضل Orange
 رقم العضوية : 27606
 تاريخ التسجيل : Apr 2014
 فترة الأقامة : 3869 يوم
 أخر زيارة : 10-06-2022 (11:52 PM)
 المشاركات : 89,909 [ + ]
 التقييم : 20634
 معدل التقييم : الصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond reputeالصاعقه has a reputation beyond repute
بيانات اضافيه [ + ]
Share7 المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي.



المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي للدكتور رمضان عبد التواب.
الدراسة الوصفية
أما المنهج الأول: فيكتفي بوصف أية لغة من لغات عند شعب من الشعوب، أو لهجة من اللهجات، في وقت معين، أي: أنه يبحث اللغة بحثًا عرضيًا لا طوليًّا، ويصف ما فيها من ظواهر لغوية مختلفة، ويسجل الواقع اللغوي، تسجيلًا أمينًا، بل إن "أنطوان مييه" (A.Meillet) يذهب إلى أبعد من هذا، حين يرى أن المنهج الوصفي "يعني: بدراسة الاستعمال اللغوي في عمومه، عند شخص بعينه، في زمان بعينه، ومكان بعينه".
فالمنهج الوصفي يقول على أساس وصف اللغة أو اللهجة في مستوياتها المختلفة، أي: في نواحي أصواتها، ومقاطعها، وأبنيتها، ودلالاتها، وتراكيبها، وألفاظها، أو في بعض هذه النواحي، ولا يتخطى مرحلة الوصف، والأطالس اللغوية مثال من أمثلة تطبيق هذا المنهج الوصفي على اللغات واللهجات، فهي لا تعرض علينا سوى الواقع اللغوي مصنفًا، دون تدخل من الباحث بتفسير ظاهرة، أو تعليل لاتجاه لغوي، هنا أو هناك.
وغالبًا ما تنصب هذه الدراسة الوصفية، على اللغات واللهجات المعاصرة، "وإن كان بعض العلماء، قد قاموا بمحاولات لدراسة اللغة، دراسة وصفية في زمن معين في الماضي" فأية دراسة صوتية أو صرفية أو تركيبية أو دلالية، لإحدى اللهجات القديمة أو الحديثة، تعد دراسة وصفية.
وقد حقق علم اللغة الوصفي القرن العشرين، نهضة كبرى، أدت إلى كثير من التطورات المهمة، في علم اللغة المعاصر، وكان القرن التاسع عشر حاملًا لكثير من الإرهاصات، لهذا العلم الحديث.
وكان من أكبر الباحثين، الذين أثروا في مجال الفصل بين الدراسات الوصفية والتاريخية، العالم السويسري: "فردينال دي سوسير" F. de Saussure - الذي وضع حجر الأساس في الدراسات اللغوية البنيوية أو الوصفية، وأثار في كتابه: "محاضرات في علم اللغة العام" Course de Linguistique générale الذي نشر بعد وفاته سنة (1916م)، وجهة نظر جديدة "إذ اعتبر اللغويات الوصفية، لا تقل أهمية عن اللغويات التاريخية، كما حدد وظيفة كل منهج وحدوده".
وقد شهد القرن العشرون مدارس لغوية وصفية متعددة، أهمها:
1- المدرسة اللغوية البنيوية: .Structural Linguistics
2- مدرسة النحو التوليدي التحويلي: .Transformational - Generative Grammar
3- مدرسة القوالب: .Tagmemic Analysis

في مناهج البحث اللغوي، لأحمد طه حسانين.
الدرس التاسع
الدراسة الوصفية
مناهج البحث في اللغة- المنهج الوصفي:
تمهيد:
كان اكتشاف اللغة السنسكريتية في أواخر القرن الثامن عشر وترجمة الدراسات اللغوية التي أثرت عن الهنود إلى اللغات الأوربية في أوائل القرن التاسع عشر سببًا في تغيير مسار الدراسات اللغوية في أوربا، وفي ظهور المناهج الحديثة اللازمة لتلك الدراسة، وكان من أسبق المناهج اللغوية ظهورًا المنهج المقارن، الذي هيمن على الدراسات اللغوية طوال القرن التاسع عشر، وتلاه في الظهور المنهج التاريخي في أواخر ذلك القرن، ثم سيطر المنهج الوصفي على الدراسات اللغوية منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وكان ذلك بفضل العالم السويسري: "دي سوسير" رائد الدراسات الوصفية الحديثة.
وقد أضيف إلى المناهج السابقة منهج رابع وهو المنهج التقابلي، وليس هناك من خلاف بينه وبين المقارن إلا في مادة الدراسة؛ حيث تكون المقارنة بين لغتين أو عدة لغات تنتمي إلى فصيلة واحدة كالسامية أو الحامية، أما المقابلة فتكون بين لغتين أو عدة لغات من فصائل مختلفة كالعربية والإنجليزية مثلًا، وقد يكون الفرق بينهما في الهدف أيضًا؛ حيث يهدف الدارس المقارن إلى التوصل إلى الصورة أو الصيغة الأصلية للغة الأم، أما الدراسة التقابلية فهي تخدم من يريد أن يتعلم لغة جديدة من غير فصيلة لغته.
وبعض الباحثين في علم اللغة ومناهج دراسته يضيف إلى قائمة المناهج اللغوية منهج الملاحظة، والمنهج الآلي، والمنهج التجريبي والمنهج الاستقرائي، وآخرون يرون أنه من الأولى ألا ننظر إلى تلك المناهج على أنها مناهج مستقلة وقائمة بذاتها، بل على أنها مكملة للمناهج السابقة، ومساعدة لها.
وأيًا ما كان الأمر فإننا سنعرض في الصفحات التالية لأهم المناهج التي ينبغي على الدارس اللغوي أن يلم بأصولها وقواعدها، وهي: المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، والمنهج المقارن.
التعريف بالمنهج الوصفي:
المنهج الوصفي هو الذي يقوم على أساس وصف اللغة أو اللهجة في مستوياتها المختلفة أي: في نواحي أصواتها، ومقاطعها، وأبنيتها ودلالاتها، وتراكيبها، وألفاظها، أو في بعض هذه النواحي ولا يتخطى مرحلة الوصف إلى تفسير الظواهر اللغوية وتعليلها.
وبذلك يفرق بعض اللغويين بين نوعين من المنهج الوصفي:
أولهما: المنهج الوصفي التقريري: وهو الذي يقف الباحث فيه عند حدود الوصف والتحليل والتصنيف، ولا يتدخل بتفسير ظاهرة أو تعليل لاتجاه لغوي هنا وهناك، وأي تدخل منه بالتفسير أو التعليل يدخل في نطاق الفلسفة.
وثانيهما: المنهج الوصفي التفسيري: وهو الذي يتخطى فيه الباحث مجرد الوصف إلى تفسير الظواهر اللغوية وشرحها يذكر عللها وأسبابها، ولنضرب على ذلك مثلًا يوضح الفرق بين الاتجاهين، وهو أنه إذا كان الواصف التقريري يصف صوت الرجل بالخشونة، ويصف صوت المرأة والطفل بالنعومة ويقف عند هذا الحد، فإن الواصف وصفًا تفسيريًّا يضيف إلى ما سبق أن العلة في خشونة أصوات الرجال ونعومة أصوات النساء والأطفال تعود إلى شكل الوترين الصوتين، فهما عند الرجال أطول، وأغلظ، وأكثر ارتخاءً، وذلك يؤثر على عدد اهتزازات الوترين، وعلى نوع الذبذبات الصادرة عنهما، كما أن قصر الوترين الصوتيين ورقتهما، وشدهما عند النساء والأطفال يؤثر على عدد الاهتزازات، وعلى نوعها، وهذا هو السبب المؤثر في خشونة الصوت أو نعومته.
ولا ريب في أن اللغويين القدامى كانوا يجمعون في دراستهم للغة العربية بين المنهجين: الوصفي التقريري والوصفي التفسيري، فسيبويه عندما تحدث عن مخارج الحروف كان منهجه وصفيًا تقريريًا، وعندما تناول بالحديث قضية الإدغام كان منهجه وصفيًا تفسيريًّا؛ لأنه في الكلام على المخارج لم يتجاوز تحديد المخرج، وذكر ما يخرج منه، أما في الحديث عن الإدغام فقد كان مولعًا بتقديم التفسير والتعليل لجواز الإدغام أو وجوبه أو امتناعه أو حسنه أو قبحه.
ولعل تعصب بعض المحدثين من اللغويين للمنهج التقريري على حساب المنهج التفسيري بمثابة رد الفعل للمآخذ الكثيرة على المنهج الفلسفي الذي وصم به اللغويون والنحويون العرب القدامى.
وإذا كان المنهج الوصفي في العصر الحديث قد نشأ وتطور نتيجة ارتباطه بدراسة ما يسمى بلغات الشعوب المتخلفة التي لم تعرف الكتابة بعد، فقد استدعى ذلك أن يمانع بعض الباحثين من استخدام المنهج الوصفي في غير حقول اللغات الحية المنطوقة بالفعل، ودعا الباحثين الوصفيين إلى تجنيب الاعتماد على المادة المكتوبة؛ لأنها قد أسست جزئيًا على لغات قديمة بطل استعمالها.
وإذا كان هذا صحيحًا بالنسبة إلى كثير من اللغات، فإن الأمر جد مختلف بالنسبة للغة العربية التي جمعت مفرداتها بطريق السماع والمشافهة، ووضعت قواعدها على أساس من الملاحظة الدقيقة والاستقراء التام الذي لا نظير له في تدوين لغة من اللغات، وفي جو بالغ الدقة من الحيطة والحذر، سواء بالنسبة لمن تؤخذ عنه اللغة أو بالنسبة لمن يرونها، هذا فضلًا عن أنها لغة كتاب مقدس... ولهذا فإننا لا نتردد أبدًا في القول باعتماد المنهج الوصفي في دراسة نصوص اللغة العربية، سواء أكانت مكتوبة أم منطوقة، قديمة أم حديثة.
الخطوات اللازمة لتنفيذ المنهج الوصفي:
الخطوة الأولى:
وتتمثل في جمع المادة اللغوية أو العينة الكلامية التي يراد وصفها وتحليلها، وحريّ بالباحث الوصفي أن يطمئن إلى التحقق من وجود صفتين هامتين في المادة العلمية التي يزمع إجراء الدراسة الوصفية عليها:
إحداهما: أن يتأكد الدارس من أنه قد قام بجمع النصوص اللغوية التي يريد وصفها بطريقة استقصائية، بحيث يغلب على ظنه أنه لم يترك أية نصوص تمس الظاهرة أو الموضوع، مهما كانت قيمة تلك النصوص، ومهما بدا من عدم أهميتها؛ لأنه إن ترك شيئًا ما من النصوص فقد يكون في ذلك المتروك ما يناقض رأيه، أو ما يغير فكرته، أو ما يعدلها، أو ما يعزز أدلته بصورة أقوى..
والأخرى: أن يطمئن الباحث إلى وثاقة المادة العلمية التي جمعها، وذلك بأن يأخذها عن مصادرها الأصلية بالمباشرة وليس بالوساطة، لا سيما إذا كانت النصوص مدونة ومكتوبة، فلا ينقل كلامًا لعالم عن مرجع وسيط ناقل، ما دام المرجع الأصيل موجودًا، وفي متناول يده لنفي احتمالات الخطأ في نقل آراء الغير، أو في فهمها أو في تصحيفها وتحريفها.
وأما إذا كانت الدراسة ميدانية وتعتمد على النصوص الحية المنطوقة؛ فإن الدارس الوصفي يعتمد في جمع مادة الدراسة على ما يُسمَّى فنيًّا بالراوي اللغوي، ولابد فيه من توافر الشروط الآتية:
- أن يكون ممن يحسن تمثيل المستوى اللغوي المدروس المراد وصفه وتحليله، وذلك بأن يكون من بين المتكلمين باللغة أو باللهجة موضوع الدراسة.
- ألا يكون قد عاش في غير موطن اللغة أو اللهجة مدة طويلة تأثرت فيها لغته أو لهجته بلغات أو لهجات أخرى.
- ألا يكون من ذوي العيوب الكلامية والنطقية، فلا يعتمد على راوٍ ألثغ، أو أشغى، أو أضجم، أو أفلج، أو أروق، أو أفقم، أو أشدن أو ألكن، أو لجلاج، أو تمتام، أو فأفاء، أو ذي حبسة، أو ذي حكلة أو ذي لفف.
- وأن يكون على قدر مناسب من الثقافة، وكلما كان أقل ثقافة كان أفضل حتى لا يقع تحت تأثير ثقافته.
وعلى فرض أن كل هذه الشروط قد توافرت في الرواة اللغويين فإنه على الدارس الوصفي أن يقوم باختبار رواته بين حين وآخر، بمعاودة الأسئلة التي وجهت إليهم، حتى يتأكد من صدق تمثيلهم للمستوى الذي ينتمون إليه ويعبرون عنه، كما ينبغي أن يفطن الدارس إلى أن أحسن الأوقات التي يسأل فيها رواته هي التي تكون فيها أحوالهم النفسية في أكمل حالاتها الطبيعية ليكون أداؤهم ممثلًا للغة أو اللهجة المدروسة أصدق تمثيل.
ولكي يحتفظ الدارس الوصفي بالعينات الكلامية من اللغة أو اللهجة كما تفوه بها الرواة اللغويون، عليه أن يستعين في تدوينها بالكتابة الصوتية، التي تمثل الأصوات والطرق الأدائية تمثيلًا موضوعيًا وصادقًا، أو يقوم على الأقل بتسجيل الأحداث الكلامية والتجمعات الصوتية على شرائط الكاسيت والاسطوانات ونحوها، حتى يمكنه أن يراجع وأن يتأكد من صدق العينات التي تجمعت لديه، ثم من صدق نتائج التحليل.
ونحسب أن ملامح المنهج الوصفي -بما تشتمل عليه من الاحتياط في جمع المادة اللغوية- قد طبقها القدماء من علماء العربية في دراستهم للغة العربية، وذلك يبدو في عدة نقاط:
- أنهم بنوا دراستهم للغة على أساس من الاستقراء وتتبع كلام العرب، بدليل أنهم كانوا يعرفون أقدارهم ومنازلهم في الإلمام والإحاطة باللغة، فالأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل يحفظ نصف اللغة، وكان أبو مالك عمرو بن كركرة يحفظ اللغة كلها؛ وهذا يعني: أنهم عرفوا حدود اللغة معرفة جيدة عن طريق الاستقراء، لدرجة أنهم كانوا يستطيعون أن يميزوا بين ما هو من اللغة التي تفوهت بها العرب وبين ما لم تقله العرب، وهذه الحاسة نجدها عند كثير من علماء العربية الأوائل ذوي الرواية والدراية بكلام العرب، ومن هؤلاء أبو الأسود الدؤلي الذي شك في أن العرب لم تنطق بكلمة - بَظِيَتْ- فسأل عن معناها، وعمن تنسب إليه، فلما قال القائل: هي حرف من اللغة لم تدر من أي بيض خرج، ولا في أي عش درج، قال أبو الأسود: يا ابن أخي لا خير لك فيما لم أدر.
- أنهم اعتمدوا اللغة المنطوقة كأساس للدراسة في علمي القراءات والأصوات، فالحروف العربية عند سيبوية منها حروف أصول، ومنها حروف فروع تستحسن في قراءة القرآن والأشعار، ومنها: حروف غير مستحسنة ولا كثيرة، وهذه الحروف التي -تممها- اثنين وأربعين، جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون لا تتبين إلا بالمشافهة، وقد بين ذلك ابن جني أيضًا في مواضع كثيرة، ومنها: تعليقه على مذهب الأخفش في إشمام الضمة التي قبل الواو رائحة الكسرة، وتخليص الواو واوًا محضة في مثل: مررت بمذعور، وهذا ابن بور، يقول ابن جني: فهذا ونحوه مما لابد في أدائه وتصحيحه للسمع من مشافهة توضحه وتكشف عن خاص سره.
- أنهم اعتمدوا على الرواة اللغويين في تمثيل اللغة البدوية، ومن أشهر هؤلاء الرواة: أبو خيرة، وأبو مهدية، وأبو ضمضم، وأبو الدقيش، وأبو العراف، والمنتجع بن نبهان... وغيرهم.
- وكان اختبار هؤلاء الرواة أمرًا واردًا على أذهان العلماء، وقصة أبي عمرو بن العلاء مع أبي خيرة شاهدة على وقوع ذلك، فهي تحدثنا أن أبا عمرو كان قد سمع من أبي خيرة -استأصل الله عرقاتهم- بالجر، ولما عاود أبو عمرو السؤال عنها مرة أخرى، نصب أبو خيرة التاء من عرقاتهم، فقال أبو عمرو: "هيهات يا أبا خيرة لان جلدك"، ولم يكن يقصد أبو عمرو من تعليقه السابق سوى أن أبا خيرة قد تأثر لسانه بلغة أهل الحضر، وأنه لم يعد يمثل المستوى اللغوي الذي يدرسه أبو عمرو، وهو اللغة البدوية الفصيحة.
وقد كان صنيع ابن جني مع عبد الله بن الشجري قريبًا مما حدث بين أبي عمرو وبين أبي خيرة، يقول ابن جني: وسألته يومًا فقلت له: كيف تجمع "دكانًا"؟ فقال: دكاكين، وقلت: فسرحانًا؟ قال: سراحين قلت: فقرطانًا؟ قال: قراطين، قلت: فعثمان؟ قال: عثمانون، فقلت له: هلا قلت أيضًا عثامين؟ قال: أيش عثامين! أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدًا.
وهكذا نجد عند اللغويين العرب كثيرًا من المبادئ التي نادى بها المحدثون في سبيل تطبيق المنهج الوصفي، لا سيما في استقصاء النصوص والتأكد من صدقها.
الخطوة الثانية:
وتتمثل في توحيد المستوى اللغوي الذي تنتمي إليه العينة الكلامية أو النصوص اللغوية التي يراد وصفها وتحليلها، فينبغي على الدارس الوصفي قبل أن يبدأ في جمع العينة الكلامية أو النصوص اللغوية: أن يعين المستوى اللغوي الذي يريد أن يبحثه ويدرسه دراسة وصفية؛ لأن مستويات استخدام اللغة كثيرة ومتعددة، فهناك المستوى الأدبي الفصيح المائل في لغة الشعر، وهو يتميز -بالطبع عن قسيمة الماثل في لغة النثر، إذ يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام كما قال سيبويه، وتعليل ذلك، وجائز لهم لا يجز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف كما قال الخليل بن أحمد: أن الشعراء أمراء الكلام يصرفون أنى شاعوا اللفظ وتعقيده، ومد مقصوره، وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد، ويبعدون القريب، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم، "وكلام هذين العالمين الجليلين من علماء اللغة صريح في وجود مستويين من اللغة الأدبية؛ "أحدهما: تمثله لغة النمط أو المعيار أو المستوى الصوابي التي تتحقق في الكلام العادي، والآخر: تمثله لغة الشعر أي: الصورة المثالية للغة الأدبية".
فالخلط بين هذين المستويين في الدراسة، واعتبارهما شيئًا واحدًا يؤدي إلى الاضطراب في نتائج التحليل والوصف، وإلى التعسف في إخضاع أحدهما لمقاييس الآخر، وهذا بعينه ما حدث من بعض اللغويين في وقت مبكر من دراسة اللغة، فقد أكثروا -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي- من تتبع زلات الشعراء، وتلمس الأخطاء لهم، مع أنهم لو أنصفوا ما فعلوا مثل ذلك، وما خلطوا بين مقاييس الشعر والنثر.
وهناك اللغة الأدبية واللغة العلمية، أو الأسلوب الأدبي والأسلوب العلمي، وهما مستويان من اللغة لا يجوز لخلط بينهما في الوصف والتحليل؛ لأن لكل منهما خصائص ينفرد بها عن الآخر، فاللغة الأدبية أو الأسلوب الأدبي يعني بالعاطفة إلى جانب الحقائق والأفكار، ويهدف إلى إثارة الانفعال في نفوس القراء والسامعين، أما اللغة العلمية فتعني بالمعارف العقلية في مجالات: الرياضة، والطب، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، والحيوان، والنبات، والكائنات الدقيقة، والهندسة بفروعها، والأرض، والطاقة، وغيرها، والغرض منها: أداء الحقائق والأفكار مجردة من العواطف والانفعال، وتمتاز هذه اللغة بالدقة والتحديد والاستقصاء، ولها مواصفات خاصة منها:
- استخدام الألفاظ الحسية دون التجريبية.
- تفضيل الجملة القصيرة دون الطويلة.
- تفضيل المأنوس من الألفاظ.
- تفضيل البناء للمعلوم على البناء المجهول.
- استعمال الأفعال المتعدية.
- عدم الإسراف في الصفات.
- ألا يستخدم من الألفاظ غير الضروري.
- ألا يستعمل من الألفاظ ما كان ذا معنيين؛ لأنه غامض الدلالة.
وإذا كان الأمر كذلك: فحريّ بالدارس الوصفي أن يراعى مثل هذا التمايز بين مستوى اللغة الأدبية ومستوى اللغة العلمية عند جميع النصوص والعينات الكلامية التي يُراد دراستها وصفية.
ويوجد أيضًا في مقابلة المستوى الأدبي الفصيح المستوى العامي الدارج، والمستوى الاجتماعي المعين، ويجدر بالدارس الوصفي قبل أن يبدأ في جمع النصوص وتحليلها: أن يميز بين هذين المستويين، وأن يحدد اللغة أو اللهجة التي يريد وصفها؛ ذلك لأن اللهجات تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية التي تتكلمها في بعض السمات والخصائص العديدة الواضحة، ومن بين تلك اللهجات الاجتماعية أو ما تسمى باللغات الخاصة: اللغة القانونية التي يستخدمها المحضر والقاضي، ولغة الطقوس الدينية ولغة الطلاب في المدارس والصناع والأشقياء، ولغات المحاكم، والأطباء وعامية الثكنات الخاصة، وعامية الخياطات، وعامية الغسالات، وعامية عمال المناجم، وعامية البحارين، وغيرهم، وباختصار "يوجد من العاميات الخاصة بقدر ما يوجد من جماعات متخصصة، والعامية الخاصة تتميز بتنوعها الذي لا يحد، وأنها في تغير دائم تبعًا للظروف والأمكنة.
وإذا لاحظنا أن الفوارق بين اللغات الخاصة وبين اللغة المشتركة غير يسيره في المفردات، وأن "التشويه الصوتي أو الصرفي مهما قبل ينتج عنه قطع الرباط الذي يصل العامية الخاصة باللغة المشتركة التي خرجت عنها عرفنا أن هذه مسوغات كافية للفصل بين مستويات تلك اللغات الخاصة وبين المستوى الفصيح.
فالدارس الوصفي -إذن- عليه أن يحدد المستوى اللغوي الذي يريد بحثه، فلا يخلط نصوصًا من مستوى معين بنصوص من مستوى آخر؛ لأنه إذا خالف ذلك وخلط بين نصوص مستويين فأكثر، اتسمت نتائجه بالاضطراب؛ لأن الأساس الذي بنى عليه مضطرب مختلط النصوص، ومن هنا تسري الفوضى في نتائجه، وتكثر الوجوه، وتتعدد في الموضع الواحد.
وهذا هو ما حدث بالنسبة لقواعد اللغة العربية، فقد شاع فيها الاضطراب، وعمت الفوضى، واختلفت الآراء في المسألة الواحدة بين المنع والجواز والقياس والشذوذ؛ لأن القدماء من علماء العربية لسوء الحظ لم يقصروا تقعيدهم لقواعد العربية على مصدر واحد هو اللغة النموذجية، كما كان الواجب، بل أقحموا معها اللهجات العربية القديمة بصفاتها وخصائصها المتباينة.. ومرجع هذا الخلط هو فكرة القداسة التي خلعوها على السليقة العربية، ولذا جاءتنا قواعدهم مضطربة، تعددت فيها الوجوه، واختلفت الأقوال في المسألة الواحدة.
الخطوة الثالثة:
وتتمثل في تحديد وتوحيد البيئة المكانية بالإضافة إلى تحديد المستوى اللغوي المدروس، وتأتي أهمية هذه الخطوة من أن الطبيعة الجغرافية المتعددة، والمناخ المختلف لهما أثر كبير في اختلاف المجتمعات من حيث طبقاتها المتفاوتة، والمهن التي تعمل بها، وهذا يؤدي بالطبع إلى اختلاف اللغات واللهجات، فالبيئة الصحراوية التي يقطنها البدو تختلف عن المدن والأرياف التي يسكنها أهل الحضر، وبيئة الزراعة تغاير بيئات الصناعة والتجارة والصيد، والمناطق الحارة تختلف عن المناطق المعتدلة أو الباردة، وهذا التعدد والتفاوت في البيئات وما يصحبه من اختلاف في الطبقات الاجتماعية والحرف والعادات والتقاليد يؤثر في خصائص اللغة ويجعلها تختلف من بيئة إلى أخرى، لأن اللغة مرآة للحياة في كل بيئة، وتعبير صادق عما هو موجود فيها من المشاهد الطبيعية أو المدركات الحسية، فجميع خصائص الإقليم تنطبع في لغة سكانه.
ومن هنا كان على الدارس الوصفي أن يحدد البيئة التي يجمع منها نصوصه اللغوية التي يريد وصفها وتحليلها، ليقدم للناس قواعد منسجمة، يتعلمونها في يسر وسهولة، وإلا أصاب القواعد الاضطراب وسرت الفوضى إليها، لانتماء النصوص التي أخذت إلى بيئات متباينة فتباينت النصوص تبعًا لتباينها، وهذا بدوره يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الوضع الواحد، ومن هنا يكون الإلمام بها صعبًا، ويصبح فهمها عسيرًا.
وإذا كان اللغويون العرب في صدر الإسلام قد حصروا القواعد التي يحتج بها في قيس وتميم وأسد وهذيل وكنانة وبعض الطائيين، ورفضوا الاحتجاج بلهجات الحضريين وسكان البراري ممن كانوا يسكنون أطراف الجزيرة فقد وجدناهم يتراجعون عن الأخذ بهذا المبدأ في القرن الرابع الهجري، وأوضح دليل على ذلك ما نجده في كتاب "الخصائص" لابن جني تحت عنوان: "باب اختلاف اللغات وكلها حجة" وما نراه من اعتناء ابن مالك في كتبه بنقل لغة لخم، وخزاعة، وقضاعة، وغيرهم، وقد فطن أبو حيان إلى ذلك التراجع عن سنة الأولين، فقال في "شرح التسهيل" معترضًا على ابن مالك: "ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن".
وقد أسفرت تلك النظرة إلى اللهجات العربية القديمة بصفاتها وخصائصها المتباينة على أنها صور من اللغة المشتركة عن "خلق مشاكل معقدة، أيسرها اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة، ومحاولة التوفيق بين المذاهب والشواهد المتناقضة، والإكثار من الأمور الجائزة، وكثرة التقسيمات والتشعيبات، والإسراف في وضع الشروط. ولو أنهم ساروا على مبدأ الأوائل كالخليل وسيبويه في تقعيد اللغة لم يحدث ذلك الاضطراب، ولم يبعدوا كثير عما نادى به المحدثون من تحديد البيئة المكانية للنصوص اللغوية المدروسة.
الخطوة الرابعة:
وتتمثل في تحديد الفترة الزمنية التي يراد بحث لغتها، فالباحث الوصفي، يكتفي بوصف أية لغة من اللغات عند شعب من الشعوب، أو لهجة من اللهجات، في وقت معين، أي: أنه يبحث اللغة بحثًا عرضيًا لا طوليًّا، والسر في ذلك هو: أن اللغة كائن حي ينمو ويتطور، ولا يثبت على حال واحدة. كما أنها مرآة للحياة الاجتماعية تعبر عما فيها من قيم وعادات ومظاهر للسلوك والنشاط، وإذا حدث تغيرات اجتماعية كبيرة في بيئة من البيئات -كأن تحدث ثورة دينية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، فلا شك أن تغييرًا مماثلًا سوف يحدث في جانب اللغة في تلك البيئة، وأعظم شاهد على ذلك: ما حدث في البيئة العربية عند مجيء الإسلام؛ فلقد كان نزول القرآن فاصلًا بين عهدين عاشتهما اللغة، وتعرضت في انتقالها من أولهما إلى الثاني لأعمق ما تتعرض له لغة من تغيرات جوهرية، ولا سيما في جانب الدلالة؛ فقد نحيت ألفاظ كثيرة من مجال الاستخدام اللغوي، فماتت معانيها، وغيرت معاني ألفاظ كثيرة من مجال الاستخدام اللغوي، فماتت معانيها، وغيرت معاني ألفاظ أخرى فصارت تدل على معانٍ جديدة بطريق المجاز أو التعميم أو التخصيص أو الإطلاق أو التقييد، كذلك نلحظ فروقًا واضحة في اللغة العربية في العصرين الأموي والعباسي، فلقد اتسعت في العصر الأخير اتساعًا كبيرًا عنها في العصر الأموي، حيث دخلت اللغة العامية بمصطلحاتها وخصائصها إلى مجال البحث. ونلحظ شيئًا من ذلك فيما قبل ثورة يوليو 1952، وفيما بعدها في لغة المجتمع المصري حيث تبع التغيير في جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تغييرات في الجانب اللغوي الذي ظهر بصفة خاصة في الصحافة والإذاعة والتليفزيون، فالدارس الوصفي عليه أن يحدد الفترة الزمنية لبحثه، وألا يخلط في مادة بحثه بين نصوص فترة زمنية ونصوص فترة أخرى، حتى لا تضطرب نتائج وصفه وتحليله. وكلما كانت الفترة المختارة للبحث أضيق، كلما كانت النتائج المتوقعة أدق وأضبط.
وإذا كان الباحثون يشترطون في الفترة الزمنية التي تبحث لغتها أن تكون غير مختلفة الأجزاء، فإنه يمكن القول بأن خلط اللغويين القدماء في دراسة اللغة بين عصري الجاهلية والإسلام إلى نهاية القرن الثاني في النثر، والقرن الرابع في الشعر، كان أحد الأسباب التي أشاعت بعض الفوضى والاضطراب فيما توصلوا إليه من نتائج.
منقول




 توقيع : الصاعقه


رد مع اقتباس
قديم 01-16-2019, 03:30 AM   #2
الصاعقه
عضو ملكي


الصورة الرمزية الصاعقه
الصاعقه غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 27606
 تاريخ التسجيل :  Apr 2014
 أخر زيارة : 10-06-2022 (11:52 PM)
 المشاركات : 89,909 [ + ]
 التقييم :  20634
لوني المفضل : Orange
افتراضي



عمل الدارس الوصفي:
بعد أن يجمع الباحث النصوص والعينات للغة أو اللهجة أو الظاهرة التي يريد بحثها بالكيفية السابقة القائمة على الاستقراء والصدق في تمثيلها لموضوع الدراسة، والمحددة زمانًا ومكانًا... يقوم بفحص تلك النصوص ووصفها وتحليلها إلى عناصرها اللغوية من الأصوات والصرف والنحو والدلالة. ثم يقوم بتحليل تلك العناصر إلى وحدات متناهية في الصغر، وذلك التحليل سوف يسفر عن الآتي:
(أ) في جانب الأصوات يستطيع الدارس الوصفي أن "يقرر أي الأصوات المتقابلة أو المتضادة تناسب موقعية معينة، وأيها لا يناسب، وأن يفضل الفونيمات الحقيقية للغة من الألفونات، وأن يكون صورة كاملة عن التركيب الفونيمي للغة، وعن الألفونات التي تكون كل فونيم، مع صورة واضحة عن الظروف المعينة التي بتحقيقها يقع الألفون المعين.
(ب) وفي جانب الصرف يحدد المورفيمات والألو مورفات، والوظائف التي تؤديها والسياق التي تظهر فيها.
(ج) وفي جانب النحو يقدم وصفًا لأنماط الجمل في اللغة أو اللهجة التي يدرسها.
(د) وفي جانب الدلالة يقوم الدارس بعمل قاموس بسيط لموضوع دراسته يبين فيه الكلمة ومعانيها.
ولا يفوتنا أن ننبه إلى أنه يشترط في ذلك الدارس أو المحلل اللغوي أن يكون موضوعيًا في تحليله، فلا يقع تحت تأثير عاداته اللغوية الخاصة، وإنما يستمد نتائجه من النصوص اللغوية وحدها، بأن يقف منها موقف العالم المتجرد لا يتعصب لها أو عليها ولا يتأثر في معالجتها والنظر إليها بعاطفة ما، ولا يحكم ذوقه الخاص وهواه في شيء من مراحل الدراسة، وبذا ينتظر أن تكون نتائج التحليل مطابقة للواقع اللغوي المدروس، ويمكن الاعتماد عليها في مجال التعليم أو في عمل الدراسات التاريخية والمقارنة.
في علم اللغة العام، لعبد العزيز علام.
الدرس التاسع
الدراسة الوصفية
إن من أحدث المناهج التي اكتشفها علم اللغة الحديث "المنهج الوصفي"؛ ذلك الذي يقوم على الملاحظة، والمشاهدة، وتتبع الظاهرة، واستقراء الجزئيات، ثم استنباط القاعدة، من خلال هذا الواقع، الذي تم توصيفه، وتقريره.
ولقد سلك نحاة العربية هذا المنهج بحذافيره، والتزموه، وهم يحاولون تقعيد النحو، وتقنينه:
1- من يوثق بعربيتهم؟ ومن لا يوثق؟:
لقد تمكن علماء اللغة العربية، من تجديد خطتهم لدراسة العربية، فكان أول ما فعلوه هو: "تحديد من يوثق بعربيتهم، ويُحتج بها".
واستطاعوا أن يحددوا القبائل العربية، التي لا تؤخذ عنها اللغة، بناءً على مقاييس علمية، يشيد بها علم اللغة الحديث، ألا وهي: "القبائل التي اختلطت" عن طريق المجاورة، أو عن طريق التجارة، أو التنقل والهجرة، هذه القبائل ليست صحيحة، ولا تؤخذ عنها اللغة. وذلك أمر له شأنه في منهج البحث العلمي؛ لأنه يشترط فيمن يكون رواية للغة ألا يكون قد تأثرت لغته بلغة أخرى.
أما "القبائل التي لم يحتك أهلها بغيرهم" من أصحاب اللغات الأخرى ولم يعرف عنها التنقل، والهجرة، والأسفار، من أجل التجارة وغيرها، ولم يغادروا بيئاتهم، فهي القبائل التي لم تفسد لغتها. فعنهم تؤخذ اللغة.
2- الارتحال والمشافهة:
وكانت الخطوة الثانية: هي"مشافهة هؤلاء الأعراب" فرحلوا إليهم: وهذه الخطوة منهجية في قيمتها، وحقيقتها، وهي التي نفذتها الدراسات اللغوية الحديثة، في صورة تسجيل المادة اللغوية، منطقة من أفراد نموذجين في نطقهم.
يزاد على ذلك: أن القدماء في مشافهتهم للعرب، لم يكونوا يسألون عن غرضهم، وطلبتهم سؤالًا مباشرًا، كثيرًا ما يدفع الناطق إلى الابتعاد عن الصورة الحقيقية، للغة المنطوقة.
وإنما كانوا يتركون الأعراب يتكلمون، دون أسئلة معينة توجه إليهم، وعلى العلماء أن يعرفوا: ماذا يريدون؟ وماذا يأخذون؟
وهذا هو المتبع الآن في حقل الدراسات اللغوية الحديثة، مما يسمى "بالكلام التلقائي" الذي يحفظ العينة اللغوية، من أي تغيير يفسدها.
ولذا قال أبو سعيد: إذا أردت أن تنتفع بالأعراب، فاستلغهم، أي: اسمع من لغاتهم من غير مسألة".
وتتابع "رحلات النحويين" إلى قلب الجزيرة العربية؛ حيث "بوادي الحجاز، ونجد، وتهامة" من أجل التلقي والمشافهة، وتبدأ هذه الرحلات مع بداية الطبقة الثالثة من البصريين، بزعامة الخليل "ت 175هـ).
فارتحل "الخليل" إلى بوادي الحجاز، ونجد، وتهامة، وطوّف بهذه البوادي، فلما أنهى مهمته، رجع إلى البصرة، واعتكف على ما حمل، من روايات، ومشافهات، فاستنبط منه الكثير والكثير، من قواعد النحو وأحكامه، وبذلك تكون علم الخليل بالنحو، ونبغ فيه، حتى قال الزبيدي عنه:
"وهو الذي بسط النحو، ومدّ أطنابه، وسبّب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحجاج فيه، حتى بلغ أقصى حدوده، وانتهى إلى أبعد غاياته".
كما ارتحل "يونس بن حبيب" من طبقة الخليل، إلى البوادي كذلك، وواجه العرب، فسمع منهم، وأصبح بذلك مرجع النحويين في المشكلات".
ويتبع "نحاة الطبقة الرابعة" من البصريين منهج الخليل، فيرتحلون إلى البوادي: "كأبي زيد"، و"أبي عبيدة"، و"الأصمعي"، كما يسلك "الكسائي: ت 189هـ" زعيم الطبقة الثانية من الكوفيين، المنهج نفسه، وذلك أنه لما أعجب بالخليل -حين توجه إليه بالبصرة- سأله: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي: الحجاز، ونجد، وتهامة، فجاب هذه البوادي، ثم عاد بعد أن حقق طلبته.
وهكذا: تصبح الرحلة إلى بوادي الجزيرة العربية سنة متبعة لدى النحويين واللغويين، حتى منتصف القرن الرابع تقريبًا، أجهد العلماء فيها أنفسهم، وتحملوا من عنت السفر، ومشقة الترحال، ما استعذبوه في سبيل الغاية النبيلة، وهي التثبت من سلامة ما يروون:
"فشافهوا الأعراب في أوديتهم، وسمعوا منهم في أخبيتهم، ومراعيهم وأسواقهم، ومجتمعاتهم، وقدموا للعلم خدمة جلية، ويدًا لا تُنسى، فعن هؤلاء أخذت علوم العربية".
3- إسهام البيئة في تحقيق المنهج الوصفي:
بعد التأكد ممن يوثق في لغتهم، وبعد الترحال إليهم في بواديهم، تأتي "طبيعة البيئة" التي كان يدرس فيها النحو، إنها بيئة البصرة، وقد استطابها العرب، النازحون من القبائل الفصيحة، فاستوطنوها، ومعظمهم، من "قيس وتميم"، كما أنها على مقربة من "سوق المربد" الذي كان صورة مطورة "لسوق عكاظ"، فحفل بالأدباء، والشعراء، وقامت حلقات الإنشاد، والمفاخرة، ومجالس العلم، والأدب، وأمه العلماء، والأدباء، للمدارسة، وللرواية.
واللغويون بين هؤلاء يأخذون اللغة، ويدوّنون، والنحاة يجدون في هذا المنتدى، وذلك المجتمع - العالم، المثقف، الذي يمثل أعلى مستوى ثقافي، وعلمي في الجزيرة- مادتهم الخصبة، وعيناتهم اللغوية الفصيحة، وكأنها رحلت إليهم في البصرة، حيث العمل، والدرس، والتقعيد، والتأليف بدلًا من أن يرحلوا هم إليها، فكأن هذه رحلة وارتحال من أجل النحو بصورة أخرى، ومن ثم كان يسمعون من هؤلاء الفصحاء: ما يؤيد مذهبهم، ويصحح قواعدهم.
4- التحري في الرواية:
ضرب القدماء المثل في الدقة، والتحري، فكانوا لا يكتبون إلا ما يثقون فيه، ولا يثقون إلا فيما تواردت به الأخبار، وتحققت منه الأسماع، وشاهد ذلك: أنك تجد في كتب النحويين، وبخاصة "كتاب سيبويه" عبارات مثل:
"سمعت فلانًا يقول: كذا" "أنشدني فلان: كذا" و"من العرب من يقول: كذا" و"حدثني من أثق بعربيته"، بإزاء عبارات أخرى تدل على ما وصل إلى العلماء بدرجة أقل من السماع، منها: "وزعم يونس كذا"، و"وزعم عيسى بن عمر كذا.."، "ورُوِي عن أبي زيد كذا...".
وكان "العدل والتجريح" للرواة الذين تؤخذ عنهم اللغة، كالعدل والتجريح في رواية الحديث، مما يدل على حرص النحويين، على التأكد من سلامة ما يدوّنون.
5- الشواهد:
الشواهد النحويين معروفة؛ منها: القرآن، والحديث، والشعر، والأمثال، والنثر، ومجيء الشواهد النحوية بهذه الكثرة الموجودة عليها -لدرجة أن تفردت كتب خاصة لشرحها، ودراستها، مثل "خزانة الأدب" البغدادي، وغيرها- نتيجة من نتائج المنهج، الذي سلكه النحاة، في استنباط قواعدهم، أنهم اتخذوا أسباب الدقة، والتحري، ليصلوا إلى النماذج الفصيحة، فيصفوها، ويستنبطوا منها القاعدة، والقرآن الكريم هو أعلى مستوى لغوي فصيح، معجز في نصه، ولغته، ومن كثر الاستشهاد بالآيات القرآنية، التي وصلت في "كتاب سيبويه" -مثلًا- أكثر من ثلاثمائة آية.
كذلك الأمر بالنسبة للحديث، وإن كانت نسبه وروده في كتب النحويين أقل بالنسبة للقرآن الكريم، ولعل السبب في ذلك، عند متقدمي النحاة، هو: "إجازة العلماء رواية الحديث بالمعنى".
وما أكثر الشواهد الشعرية، التي دعم بها النحاة قواعدهم، ولقد بلغت في كتاب سيبويه أكثر من ألف بيت، كذلك النثر والأمثال.
وكثرة الشواهد كانت شرطًا، من شروط الأخذ بالقاعدة عند البصريين، فكانوا لا يكتفون بالشاهد، أو الشاهدين، وإنما لابد من توافر الشواهد: من القرآن الكريم، والشعر العربي الفصيح، وأقوال العرب، الواردة بالطرق الموثوق فيها.
إن موضوع "الشواهد" النحوية، والصرفية، والبلاغية، واللغوية، التي هي عماد الدراسات اللغوية، والأدبية، والنقدية عند العرب، من أقوى الأدلة على الوجود القوي الكامل "للمنهج الوصفي" عند علماء العربية بعامة، وعلماء النحو بخاصة.
كما أن "الشواهد" التي تمثل ظاهرة في الدرس اللغوي بعامة، والنحوي بخاصة، تمثل استمرارية الاتصال، والأخذ عن الفصحاء الذين يوثق بلغتهم، وتؤخذ عنهم اللغة، فكأن "المشافهة" قائمة.
وانطلاقًا من هذا التصور اللغوي لدى العلماء، كان حرصهم على: "الشاهد، والمثال" وراء كل قاعدة، أو كل حكم.. بل كانت وفرة الشاهد أساس الحكم على "القاعدة" وعلى درجتها من حيث: -الاطراد. -أو الكثرة، -أو القلة، -أو الندرة، -أو الشذوذ: لهذا: كان مناط الاختلاف في الرأي بين القدماء: وجود شاهد أو أكثر؛ وذلك كانت قوة الرأي وضعفه تعتمد على وفرة الشواهد، وقلتها.
ولعل هذا كان السبب وراء تمسك البصريين بآرائهم النحوية، ذلك التمسك الذي بلغ في بعض صوره درجة التعصب.
وذلك لأنهم: لكي تصح القاعدة النحوية أو الصرفية عندهم، فلابد من توافر الشواهد، توافرًا يصل بالقاعدة إلى درجة "الاطراد".
ومن هنا كانت "كثرة الاستعمال" مقياسًا من مقاييس الحكم النحوي عند القدماء.
ولهذا عرف عن البصريين بأنهم أهل سماع: حيث إنهم كانوا يتمسكون بالشواهد، وكلام العرب، واستعمالهم. بينما عرف عنهم -فيما بعد أنهم أهل قياس: وذلك عندما تمسكوا بقواعدهم، التي استنبطوها من خلال أقوال العرب، وشواهدهم الشعرية، وغير الشعرية، وأخذوا يقيسون عليها كل الذي يتكلم به الناس، فما وافق قواعدهم اعتمدوه، وأخذوا به، وما خالف قواعدهم محصورة، فإن كان قابلًا للتأويل أوّلوه، وإن لم يقبل التأويل حكموا عليه بالشذوذ.
أما الكوفيون: فقد عرفوا بأنهم في أول الأمر كانوا أهل قياس، وذلك لعدم توافر الشواهد، وعدم المشافهة، ثم صاروا فيما بعد "أهل سماع"، حينما أخذوا يعتمدون كل ما يسمعونه من الناس، ويقبلونه، ولا يردونه، ولا يؤولونه.
6- الموضوعية:
من المعروف في تاريخ النحو العربي "التنافس" الذي نشأ بين البصرة والكوفة، والذي كان دافعًا قويًّا، وقوة محركة للعلماء؛ ليبذلوا أقصى الجهد في وضع النحو وتأصيله، واستيفاء أحكامه وقوانينه، وقد وصل هذا التنافس في آخر فتراته إلى "العصبية"، فظهر الأنصار للمذهب الكوفي، في مقابلة أنصار للمذهب البصري، وأصبح أنصار كل فريق، يتعصبون لآراء مذهبه، ومدرسته.
ولما ظهرت بغداد في ميدان الدرس النحوي، ورحل إليها كثير من النحويين، واستقروا بها، نزعوا ثوب العصبية، والتزموا "ألموضوعية والحيادية العلمية" في دراسة النحو، فما رأوه جيدًا متفقًا مع قواعد العربية، أخذوا به، بصرف النظر عما إذا كان هذا الرأي بصريًا، أو كوفيًا.
وقد سبق لنا ضرب أمثلة على ذلك، عند الحديث عن الطور الرابع، أو المرحلة الرابعة، من تاريخ النحو العربي.
وبهذا وغيره مما لم يتسع المجال له، تكون لدى نحاة العرب "المنهج العلمي" الدقيق، الذي قام على: الوصف، والتقرير، والملاحظة، والمشاهدة، والاستقرار، والتقصي لما هو فصيح، من قبائل العرب، وقد أيد هذا بالشواهد الكثيرة: من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأشعار العرب، وأمثالهم ونثرهم.
وهذا المنهج بهذه الصورة الواقعية، في تاريخ الدراسات اللغوية والنحوية هو الذي طالعتنا به اليوم مناهج البحث العلمي الحديث، وهو "المنهج الوصفي".
المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، لرمضان عبد التواب.
الدرس التاسع
الدراسة التاريخية
أما المنهج التاريخي: فيدرس اللغة دراسة طولية، بمعنى: أنه يتتبع الظاهرة اللغوية في عصور مختلفة، وأماكن متعددة ليرى ما أصابها من التطور، محاولًا الوقوف على سر هذا التطور، وقوانينه المختلفة.
ويمكننا لذلك القول: بأن عرض نحو أية لغة، يكتفي إن أراد الاقتصار على هذه اللغة بوصفها. غير أن تعليل الظواهر التي توجد في هذه اللغة، يظل أمرًا بالغ الصعوبة، إذا لم يعرف لهذه اللغة فترات تاريخية متباعدة، يمكن المقارنة بينها، ومعرفة صور التطور الناتجة عبر الأجيال الكثيرة. وعندئذ يمكن الكشف عن السر الذي يكمن وراء إحدى صور هذا التطور.
ولنأخذ مثلًا على هذا: اللغة العربية العامية، التي نتحدث بها اليوم في البلاد العربية؛ فإن وصف هذه اللغة من نواحيها المختلفة، أمر سهل ميسور؛ إذ يُقال مثلًا: إن الاستفهام يعبر عنه بنبر أحد أجزاء الجملة، وإن النفي يكون بالأداة: "مُِش" مثلًا، وإن ترتيب الجملة فيها: فاعل + فعل + مفعول...إلخ إلخ. ولكن معرفة سر وصول هذه النواحي المختلفة؛ من صوتية، وصرفية، وتركيبية، ودلالية، وغيرها، إلى ما وصلت إليه، كان من الممكن أن يظل لغزًا، لولا معرفتنا بالعربية الفصحى. وكان من الممكن أن يزداد وضوح التطور وأسراره في هذه اللغة العامية، لو أننا توصلنا إلى معرفة حلقات التطور المختلفة، منذ الجاهلية حتى الآن.
فالمنهج التاريخي في الدرس اللغوي: عبارة عن تتبع أية ظاهرة لغوية في لغة ما حتى أقدم عصورها، التي نملك منها وثائق ونصوصًا لغوية، أي: أنه عبارة عن بحث التطور اللغوي في لغة ما عبر القرون، فدراسة أصوات العربية الفصحى دراسة تاريخية، تبدأ من وصف القدماء لها من أمثال الخليل بن أحمد، وسيبويه، وتتبع تاريخها منذ ذلك الزمان، حتى العصر الحاضر، دراسة تدخل ضمن نطاق المنهج التاريخي. ومثل ذلك يُقال عن تتبع الأبنية الصرفية، ودلالة المفردات، ونظام الجملة.
وإذا كان علم اللغة الوصفي، يمكن أن يوصف بأنه "علم ساكن static"، إذ فيه توصف اللغة بوجه عام، على الصورة التي توجد عليها، في نقطة زمنية معينة، فإن علم اللغة التاريخي "يتميز بفاعلية مستمرة "dynamic" فهو يدرس اللغة من خلال تغيراتها المختلفة. وتغير اللغة عبر الزمان والمكان خاصة فطرية في داخل اللغة، وفي كل اللغات، كما أن التغير يحدث في كل الاتجاهات: النماذج الصوتية، والتراكيب الصرفية والنحوية، والمفردات. ولكن ليس على مستوى واحد، ولا طبقًا لنظام معين ثابت. هذه التغيرات اللغوية تعتمد على مجموعة من العوامل التاريخية. وبينما يمكن دراسة هذه التغيرات دراسة وصفية، هي محض تعريف بأشكال التغيرات الحادثة، فإنه لا يمكن عزلها عن الأحداث التاريخية التي تصاحب وجودها. وإذا كانت الوظيفة الأولى لعلم اللغة الوصفي، هي أن يصف، ولعلم التاريخي هي أن يعرض التغيرات اللغوية؛ فمن الصعب كثير الفصل بين النوعين في مجال التطبيق العملي، وذلك لأن كل المصطلحات، التي استعملت تحت العنوان الوصفي، قابلة من الناحية العملية للاستعمال مع الفرع التاريخي".
"وعلى الرغم من أسبقية علم اللغة التاريخي، في ميدان البحث اللغوي، ومن التقدم المطرد، الذي أمكن تحقيقه خلال القرنين الماضيين، فما زالت هناك جهود ضخمة يمكن بذلها، حتى بالنسبة لتلك اللغات، التي لاقت اهتمامًا كبيرًا، فإن هناك اكتشافات ضخمة لكتابات مسجلة، ما تزال يتوصل إليها. ويجب كلما اكتشف شيء من ذلك، أن يعاد النظر في النتائج المقاربة المسابقة، التي كان بعضها فرضيًا، ويدخل عليها من التعديلات ما هو ضروري، بعد الاستفادة من تلك الشواهد الجديدة... وهنا نجد المنهجين: التاريخي، والوصفي، يدخلان في شكل انسجامي تعاون مثمر".
"وليس المنهج المقارن إلا امتدادًا للمنهج التاريخي، في أعماق الماضي السحيق، وينحصر في نقل منهج التفكير، الذي يطلق على العهود التاريخية، إلى عهود لا نملك منها أية وثيقة".
ومع أن المنهج المقارن يولي وجهة شطر الماضي السحيق، فإنه في الواقع لا يؤتي ثمرته، إلا في اتجاه عكسي؛ لأنه يوضح تفاصيل اللغات الثابتة بالوثائق. وأظهر نتيجة لنحو اللغات "الهندو-أوربية" المقارن، تنحصر في تحديد صلات القرابة بين هذه اللغات، فكل اللغات الفارسية، واللغات السلافية، والجرمانية، والرومانية، والكلتية، إذا اعتبرت من الوجهة الزمنية، تبدو للعالم اللغوي نتيجة لسلسلة متتابعة من التباين لحالة لغوية واحدة سابقة عليها جميعًا وتسمى باللغة "الهندية الأوربية".

المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، لرمضان عبد التواب.
الدرس التاسع
الدراسة المقارنة
"ويتضمن المنهج المقارن أساسًا؛ وضع الصيغ المبكرة المؤكدة، المأخوذة من لغات يُظن وجود صلة بينها جنبًا إلى جنب؛ ليمكن إصدار حكم فيها بعد الفحص والمقارنة، بخصوص درجة الصلة بين عدة لغات، والشكل الذي يبدو أقرب صلى إلى اللغة الأم.
ولعل الباحث يكون آمنًا حين يقرر انتماء لغات متعددة إلى أصل مشترك، إذا وجد بينها تماثلًا كافيًا في تركيباتها النحوية، ومفرداتها الأساسية، وإذا لاحظ ازدياد قربها بعضها من بعض، كلما اتجهنا إلى الوراء".
"ويقدم لنا النحو المقارن نظامًا تُصنَّف فيه اللغات في أسرات تبعًا لخصائصها، فبمقارنة الأصوات، والصيغ، تتجلى ضروب التجديد الخاصة بكل لغة، في مقابلة البقايا من حالة قديمة، وقد نجح اللغويون في أن يحددوا ما قبل تاريخ اللغات "الهندو-أوربية"، ولكنهم لم يصلوا إلى معرفة من كانوا يتكلمونها، ولم يستطيعوا أن يحددوا أسلاف الإغريق أو الجرمان، أو اللاتين، أو الكلتيين، وإنما يعرفون فقط التغييرات التي مرت بها الجرمانية والإغريقية واللاتينية والكلتية، حتى وصلت إلى الحالة، التي تكشف عنها النصوص. أما الأسماء التي أطلقوها على اللغات، التي أعادوا بناءها فتحكمية، قد اتفقوا عليها مجرد اتفاق؛ فكلمة: الهندية الأوربية، إذا أخرجت من الاستعمال اللغوي، لم يبق لها أي معنى".
ومنذ نشأة طريقة المقارنة بين اللغات -وهي أصلًا طريقة تاريخية- وهي تحظى بمكانة مرموقة في علم اللغويات -كما صارت البحوث اللغوية التاريخية- وقفًا على كبار العلماء والباحثين، على حين استمرت الطريقة الوصفية كما كانت من قبل، طريقة عملية ذات نفع عاجل، تعالج تعلم الناس اللغات الأجنبية، وتعرفهم بالطريقة الصحيحة لاستخدام لغاتهم.
هذا هو المنهج المقارن، وتلك هي حدوده. وقد تأثر به دارسو اللغات السامية، وقطعوا فيه شوطًا ليس بالقصير.
وإن من يلج ميدان الدراسة السامية المقارنة يدرك على الفور مدى الصعوبة التي تقابل الباحث عندما يريد الرجوع بظاهرة ما في هذه اللغات إلى أصلها؛ ذلك لأن هذه اللغات السامية ليست حلقات متصلة في سلسلة لغوية واحدة، يمكن اعتبار إحداها أقدم اللغات، والثانية أحدث منها... وهكذا، بل هي على العكس من ذلك، تُعدُّ خلفًا للغة واحدة، هي ما اصطلح العلماء على تسميته "بالسامية الأم"، وهذه اللغة لا وجود لها الآن في صورة وثائق أو نقوش مكتوبة.
ولذلك: فمن الممكن دراسة كل لغة من اللغات السامية على حدة دراسة وصفية وتاريخية منتجة إلى أقصى حد، غير أن استنباط الأصول الأولى للظواهر اللغوية المختلفة في هذه اللغات أمر بالغ الصعوبة. وقد حاول العلماء استخدام الطرق العلمية، التي كشف عنها المنهج المقارن، وعلم اللغة الحديث، في الوصول إلى هذه الأصول الأولى "لكن لا يجوز للمرء، أن يطلب الكثير في هذه الناحية؛ فإن سير تطور اللغات غامض في تفاصيله بالنسبة لنا غالبًا، وذلك في المرحلة السابقة للمرحلة، التي وصلت إلينا منها وثائق لغوية".
لقد أدى اكتشاف اللغة السنسكريتية -في القرن الثامن عشر- إلى نشوء علم اللغة المقارن -كما ذكرنا، وطمع علماء الساميات في تطبيق المنهج المقارن للغات "الهندو-أوربية"، على مجموعة اللغات السامية، وحاولوا بالمقارنة الاهتداء إلى الأصول الأولى، وأطلقوا عليه اسم: "اللغة السامية الأم" غير أنهم كانوا يدركون تمامًا: أن هذه اللغة الأم، لا تخرج عن كونها افتراضًا قابلًا للتعديل في أي وقت، طبقًا لما تؤدي إليه بحوث المستقبل.
ولقد كان "نولدكه" Nأ¶ldeke" على حق، عندما قال: "وإننا نريد أن نوجه سؤالًا لمن يظن أن إعادة البناء الكامل للغة السامية الأولى -ولو بالتقريب- أمر ممكن. والسؤال هو: هل يستطيع أحسن العارفين باللهجات الرومانية كلها (الإيطالية، والفرنسية، والإسبانية) أن يعيد بناء الأصل القديم لهذه اللهجات، وهو اللغة اللاتينية، لو فرض أنها غير معروفة الآن؟".
ومع كل هذه الصعوبات، أثمرت الدراسات السامية المقارنة في القرن الماضي، والقرن الحالي، ثمرات عظيمة، وأصبحنا نقف في كثير من المسائل فيها، على أرض ليست هشة. والفضل في كل هذا للمستشرقين من علماء الغرب.
ولم تكن اللغات السامية مجهولة تمامًا، بالنسبة للعرب؛ فقد فطن الخليل بن أحمد (المتوفى سنة 175هـ) إلى العلاقة بين الكنعانية والعربية، فقال: "وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية".
كما عرف أبو عبيد القاسم بن سلام (المتوفى سنة 224هـ) اللغة السريانية، وأداة التعريف فيها، وهي الفتحة الطويلة في أواخر كلماتها.
وكذلك أدرك ابن حزم الأندلسي (المتوفى سنة 456هـ) علاقة القربى بين العربية والعربية والسريانية، فقال: "من تدبر العربية والعبرانية والسريانية؛ أيقن أن اختلافها إنما هو من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل".
ويقول الإمام السهيلي (المتوفى سنة 581هـ): "وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ".
كما عرف أبو حيان الأندلسي (المتوفى سنة 754هـ) اللغة الحبشية، وأدرك العلاقة بينها وبين العربية، وألف فيها تأليفًا مستقلًا؛ فقال: "وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش، في كتابنا المترجم عن هذه اللغة، المسمى بـ: "جلاء الغبش عن لسان الحبش". وكثيرًا ما تتوافق اللغتان: لغة العرب ولغة الحبش، في ألفاظ، وفي قواعد من التركيب نحوية، كحروف المضارعة، وتاء التأنيث، وهمزة التعدية".
أما المستشرقون: فقد بدأت دراساتهم الأولى، في أحضان كليات اللاهوت، فأدركوا العلاقة بين العبرية والعربية والسريانية، وبدأت هولاندة في القرن الثامن عشر، على يد "شولتنس" Schultens بمقارنة العبرية بالعربية، وجاء بعده كل من: "إيـï**ـالد" Ewald، و "ألسهوزن" Olshausen فألفا في اللغة العبرية مستخدمين العربية في المقارنة، كما حاول مثل ذلك "نولدكه" Nأ¶ldeke في الآرامية. وفي عام 1980م ألف "وليم رايت" W.Wright كتابة: "محاضرات في النحو المقارن للغات السامية" Lectures on the comparative Grammar of the Semitic Languages كما ألف بعده بعام كل من: "لاجارد Lagarde" و"بارت Barth": "بحوث في أبنية الأسماء السامية" Untersuchungen über die semitische Nominalbildung كما ألف "لند برج Lindberg": "النحو المقارن للغات السامية" "Vergleichende Grammatik der semitischen Sprachen" وألف "تسمّرن Zimmern" كتابه الذي سماه: "النحو المقارن للغات السامية" كذلك، ونشره في برلين سنة 1898م.
وجاء بعد هؤلاء جميعًا، عملاق هذا الفن، المستشرق "كارل بروكلمان C.brockelmann فألفَّ كتابه الضخم: "الأساس في النحو المقارن للغات السامية" "Grundriss derverglenenden Grammatik der" في جزأين، يضم الأول منهما دراسات، عن أصوات اللغات السامية وأبنية الأسماء والأفعال فيها، كما يختص الثاني بدراسة الجملة في اللغات السامية. وأكثر موضوعات هذا الجزء جديد، لم يسبق إليه مؤلفه. وقد نشر الجزء الأول في برلين سنة 1908م، ونشر الثاني فيها سنة 1913م.
ولبروكلمان نفسه كتابان صغيران، يقتصران على موضوع الجزء الأول من "الأساس" يسمى الأول: "فقه اللغات السامية" "Semitische Sprachwissenschaft" نشره في ليبزج سنة 1906م. وقد ترجمناه إلى العربية، ونشرناه في جامعة الرياض سنة 1977م. أما الكتاب الثاني فيسمى: "مختصر النحو المقارن للغات السامية" "Kurzgefasste Vergleichnde Grammatik der sdemiticsnden Sprachen" نشره في برلين سنة 1908م.
وكل من جاء بعده عالة عليه، أمثال: "أوليري De lacy O'Laery" الذي نشر في سنة 1929م، كتابًا بعنوان: "النحو المقارن للغات السامية Comparative Grammar of the Semitic Languages" و "برجشتراسر" Bergstrasser الذي ألف في عام 1928م، كتابًا بعنوان: "المدخل إلى اللغات السامية Eniführung in die semitischen Sprachen" كما ألقى في الجامعة المصرية القديمة، محاضرات عن التطور النحوي، مقارنًا العربية باللغات السامية. وقد طبعت هذه المحاضرات تحت عنوان: "التطور النحوي للغة العربية" بالقاهرة سنة 1929م. وقد قمت أنا بتصحيح أوهامه والتعليق عليه، وطبع القاهرة 1981م. "موسكاتي S.Moscati" الذي نشر في روما سنة 1960م كتابًا بالإيطالية، عنوانه: "محاضرات في اللغات السامية": Lezioni di linguistica Semitica ثم ترجمه بعد تنقيح إلى الإنجليزية، بالاشتراك مع: "أنطون شـپـيتالر" A.Spitaler و"إدوارد ألندورف"ونشر تحت عنوان: "مقدمة في النحو المقارن للغات السامية"E. Ullendorf An Introduction to the Comparative Grammar of the Semitic Languages في ï*¬ـيسبادن بألمانيا سنة 1964م.
هذا إلى مئات المقالات التي تعالج موضوعات مفردة في شتى المجالات العلمية، الأوروبية والأمريكية - كل هذه المؤلفات تعالج اللغات السامية، وفق المنهج المقارن. ومع تقدم هذا العلم في الغرب، فإنه ما يزال -مع الأسف- جديدًا غض الإهاب في الشرق، وسيمضي وقت طويل، قبل أن ينهض على قدم وساق؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بكل لغة من اللغات السامية، وهو أمر لما يتح إلا لقلة من الدارسين.
منقول



 
 توقيع : الصاعقه



رد مع اقتباس
إضافة رد

       

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
       

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

 

ادارة المنتدى غير مسؤوله عن التعامل بين اﻻعضاء وجميع الردود والمواضيع تعبر عن رأي صاحبها فقط

 

 


الساعة الآن 11:37 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd


F.T.G.Y 3.0 BY:
D-sAb.NeT © 2011

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

new notificatio by 9adq_ala7sas
This site is safe