إذا عاشت الشعوب الجهل والتخلف أصيبت بداء التعصب المذهبي والتحجر الفكري والاستبداد السياسي، فلا تعرف إلا ما ولدت عليه وورثته من الآباء والأجداد ولو خالف الحق، قال تعالى عن المشركين: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، حينها يعتبر الرأي المخالف لهذه الشعوب ولو كان صحيحا، منكرا ومردودا، ويهاجم كل مبدع وناجح،
يقول فولتير كما في كتاب (متعة الحديث) للداود: النجاح خطيئة يرتكبها بعض الناس بحسن نية لكن زملاءه لا يغفرونها له،
وأقول: كم من كرامة لعظيم مرغها الجهال بالتراب، وانظر لما واجهه الأنبياء - عليهم السلام - من هجوم وعداوة من الحمقى والسفلة عبدة الأصنام، ويسكت بعض العظماء عن قول الحقيقة خوفا من سطوة الدهماء وغضبة الغوغاء،
حتى يقول شوقي: قالت الضفدع قولا فهمته الحكماء في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟!
ومثله بالشعبي قال الشاعر الكبير أبو زيد محمد بن أحمد السديري:
* كم واحد له غاية ما هرجها - يكنها لو هو للأدنين محتاج
* يقضب عليك المخطية من حججها - حلو نباه وقلبه أسود من الصاج.
والمعنى: كم من إنسان عنده سر خاص لا يبوح به حتى على أقرب قريب منه؛ لأن من الناس من لا يؤتمن على الأسرار وليس محلا للشكوى ويفرح بالخطأ والزلة بينما تجد ظا%Dplication/x-www-form-urlencoded
�، فهو يظهر لك الصداقة والمودة بينما باطنه أسود من الحقد والحسد، أشد سوادا من صاج الحديد الذي غيرته النار والدخان، وأنا أعزي اللامعين والناجحين الذين يواجهون هجوما ساحقا من الأغبياء بسيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يجابه بجاهلية جهلاء، تكوّن أحزابا ضده وضد دعوته من مشركين أوغاد، ومنافقين خونة، ويهود ماكرين، ونصارى حاقدين، وأقارب جفاة، فيصبر ويحتسب ويواصل وينتصر ويتوج بتاج: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، يقول الشاعر عبد الله البردوني يحيي سيد الخلق ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم ويصف شجاعته وصموده وصبره:
* وشبَّ طفلُ الهدى المحبوب مُتَّشِحًا - بالمجد مُتَّزِرًا بالنور والنار
* في كفِّه شعلة تهدي وفي دمه - عقيدة تتحدى كل جبار.
وانظر لعصر فتوحات المسلمين كيف حصل التجديد والإبداع واتسعت الصدور للخلاف السائغ، واشتغلت الأمة بالفتوحات والانتصارات والبناء والتمدن، فلما ضعف حال الأمة وأصابها الهزال وقعت في حروب وهمية من الخلاف المذهبي والتعصب والتقليد، في ظل ظلم وجبروت من خلفاء بعضهم صبيان وبعضهم كبار سفهاء، حتى يقول عن بعضهم الذهبي وابن كثير: واشتغل هذا الخليفة بالجواري والشرب والغناء، وكان مغرما بمهارشة الكلاب ونطاح الكباش، فانحصر في عهدهم الإبداع العقلي والتجديد العلمي، واضطهد الأئمة والعباقرة والنبغاء، فوضع ابن تيمية في الحبس، وطورد ابن خلدون، وقتل المتنبي في الصحراء، وحجر على ابن رشد في بيته، وأحرقت كتب ابن حزم وطرد من مدينته، واغتيل لسان الدين بن الخطيب، إذن الإبداع والنجاح والتفوق والموهبة خطيئة لا تغتفر عند المحبطين والفاشلين والكسالى.
د.عائض القرني